صفحة جزء
تبارك الذي جعل في السماء بروجا الظاهر أنها البروج الاثنا عشر المعروفة، وأخرج ذلك الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وهي في الأصل القصور العالية، وأطلقت عليها على طريق التشبيه لكونها للكواكب كالمنازل الرفيعة لساكنيها، ثم شاع فصار حقيقة فيها، وعن الزجاج أن البرج كل مرتفع فلا حاجة إلى التشبيه أو النقل، واشتقاقه من التبرج بمعنى الظهور، والذي يقتضيه مشرب أهل الحديث أنها في السماء الدنيا ولا مانع منه عقلا، لا سيما إذا قلنا بعظم ثخنها بحيث يسع الكواكب وما تقتضيه - على ما ذكره أهل الهيئة - وهي عندهم أقسام الفلك الأعظم المسمى - على ما قيل – بالعرش، ولم يرد - فيما أعلم - إطلاق السماء عليه، وإن كان صحيحا لغة، سميت بأسماء صور من الثوابت في الفلك الثامن وقعت في محاذاتها وقت اعتبار القسمة، وتلك الصور متحركة بالحركة البطيئة كسائر الثوابت، وقد قارب في هذه الأزمان أن تخرج كل صورة عما حاذته أولا، وابتداؤها عندهم من نقطة الاعتدال الربيعي، وهي نقطة معينة من معدل النهار لا تتحرك بحركة الفلك الثامن، ملاقية لنقطة أخرى من منطقة البروج تتحرك بحركته، وإذا لم يتحرك مبدأ البروج بتلك الحركة لم يتحرك ما عداها، وقد جعل الله تعالى ثلاثة منها ربيعية، وهي: الحمل والثور والجوزاء - وتسمى التوأمين أيضا - وثلاثة صيفية، وهي: السرطان والأسد والسنبلة - وتسمى العذراء أيضا - وهذه الستة شمالية، وثلاثة خريفية، وهي: الميزان والعقرب والقوس - ويسمى الرامي أيضا - وثلاثة شتوية، وهي: الجدي والدلو - ويسمى الدالي وساكب الماء أيضا - والحوت - وتسمى السمكتين - وهذه الستة جنوبية، ولحلول الشمس في كل من الاثني عشر يختلف الزمان حرارة وبرودة، والليل والنهار طولا وقصرا، وبذلك يظهر بحكم جري العادة في عالم الكون والفساد آثار جليلة من نضج الثمار وإدراك الزروع ونحو ذلك مما لا يخفى، ولعل ذلك هو وجه البركة في جعلها.

وأما ما يزعمه أهل الأحكام من الآثار إذا كان شيء منها طالعا وقت الولادة أو شروع في عمل من الأعمال، أو وقت حلول الشمس نقطة الحمل - الذي هو مبدأ السنة الشمسية في المشهور - فهو محض ظن ورجم بالغيب، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام في ذلك مفصلا، ولهم في تقسيمها إلى مذكر ومؤنث وليلي ونهاري وحار [ ص: 41 ] وبارد وسعد ونحس إلى غير ذلك كلام طويل، ولعلنا نذكر شيئا منه بعد إن شاء الله تعالى، ومن أراده مستوفى فليرجع إلى كتبهم.

ثم الظاهر أن البروج المجعولة مما لا دخل للاعتبار فيها، والمذكور في كلام أهل الهيئة أنها حاصلة من اعتبار فرض ست دوائر معلومة قاطعة للعالم، فيكون للاعتبار دخل فيها - وإن لم تكن في ذلك - كأنياب الأغوال لوجود مبدأ الانتزاع فيها، فإن كان الأمر على هذا الطرز عند أهل الشرع بأن يعتبر تقسيم ما هي فيه إلى اثنتي عشرة قطعة وتسمى كل قطعة برجا فالظاهر أن المراد بجعله تعالى إياها جعل ما يتم به ذلك الاعتبار، ويتحقق به أمر التفاوت والاختلاف بين تلك البروج، وفيه من الخير الكثير ما فيه، وقيل: إن في الآية إيماء إلى أن اعتبار التقسيم كان عن وحي، والمشهور أن من اعتبر ذلك أولا هرمس وهو على ما قيل إدريس - عليه السلام - فتأمل.

وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة أن البروج قصور على أبواب السماء فيها الحرس، وقيل: هي القصور في الجنة، قال الأعمش : وكان أصحاب عبد الله يقرؤون: (في السماء قصورا)، وتعقب بأنه يأباه السياق؛ لأن الآية قد سيقت للتنبيه على ما يقوم به الحجة على الكفرة الذين لا يسجدون للرحمن - جل شأنه - وبيان أنه المستحق للسجود ببيان آثار قدرته سبحانه وكماله - جل جلاله - والظاهر أن يكون ذلك بذكر أمور مدركة معلومة لهم، وتلك القصور ليست كذلك.

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد أنها النجوم، وروي ذلك عن قتادة أيضا، وعن أبي صالح تقييدها بالكبار، وأطلق عليها ذلك لعظمها وظهورها لا سيما التي من أول المراتب الثلاثة للقدر الأول من الأقدار الستة.

وأنت تعلم أنه لم يعهد إطلاق البروج على النجوم، فالأولى أن يراد بها المعنى الأول المروي عن ابن عباس الذي هو أظهر من الشمس وجعل فيها أي في السماء، وقيل: في البروج سراجا هي الشمس كقوله تعالى: وجعل الشمس سراجا وقرأ عبد الله ، وعلقمة ، والأعمش والأخوان «سرجا» بالجمع مضموم الراء، وقرأ الأعمش أيضا، والنخعي ، وابن وثاب كذلك إلا أنهم سكنوا الراء وهو - على ما قيل - من قبيل إن إبراهيم كان أمة لأن الشمس لعظمها وكمال إضاءتها كأنها سرج كثيرة، أو الجمع باعتبار الأيام والمطالع، وقد جمعت لهذين الأمرين في قول الشاعر:


لمعان برق أو شعاع شموس



وعلى هذا القول تتحد القراءتان، وقال بعض الأجلة: الجمع على ظاهره، والمراد به الشمس والكواكب الكبار، ومنهم من فسره بالكواكب الكبار، واعترض على الأول بأنه يلزم تخصيص القمر بالذكر في قوله تعالى: وقمرا منيرا بعد دخوله في السرج، والمناسب تخصيص الشمس لكمال مزيتها على ما سواها، ورد بأنه بعد تسليم دخوله في السرج خص بالذكر لأن سنيهم قمرية، ولذا يقدم الليل على النهار، وتعتبر الليلة لليوم الذي بعدها، فهم أكثر عناية به مع أنه - على ما ذكره - يلزمه ترك ذكر الشمس وهي أحق بالذكر من غيرها، والاعتذار عنه بأنها لشهرتها كأنها مذكورة ولذا لم تنظم مع غيرها في قرن - لا يجدي.

والقمر معروف، ويطلق عليه بعد الليلة الثالثة إلى آخر الشهر، قيل: وسمي بذلك لأنه يقمر ضوء الكواكب، وفي الصحاح لبياضه، وفي وصفه ما يشعر بالاعتناء به، وعلى الفرق المشهور بين الضوء والنور يكون في وصفه بـ(منيرا) دون (مضيئا) إشارة إلى أن ما يشاهد فيه مستفاد [ ص: 42 ] من غيره وهو الشمس، بل قال غير واحد: إن نور جميع الكواكب مستفاد منها، وإن لم يظهر اختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها كما في نور القمر.

وقرأ الحسن ، والأعمش ، والنخعي ، وعصمة عن عاصم «وقمرا» بضم القاف وسكون الميم، واستظهر أبو حيان أنها لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب، وقيل: هو جمع قمراء، وهي الليلة المنيرة بالقمر، والكلام على حذف مضاف، أي: وذا قمر، أي: صاحب ليال قمر، والمراد بهذا الصاحب القمر نفسه، ويكون قوله سبحانه: ( منيرا ) صفة لذلك المضاف المحذوف؛ لأن المحذوف قد يعتبر بعد حذفه كما في قول حسان رضي الله تعالى عنه:


بردى يصفق بالرحيق السلسل



فإنه يريد ماء بردى، ولذا قال يصفق بالياء من تحت، ولو لم يراع المضاف لقال تصفق بالتاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية