صفحة جزء
ولما بلغ أشده أي المبلغ الذي لا يزيد عليه نشوءه، وقوله تعالى: واستوى أي كمل وتم تأكيد وتفسير لما قبله كذا قيل: واختلف في زمان بلوغ الأشد والاستواء فأخرج ابن أبي الدنيا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: الأشد ثلاث وثلاثون سنة والاستواء أربعون سنة، وهي رواية عن ابن عباس أيضا وروي نحوه عن قتادة وقال الزجاج مرة: بلوغ الأشد من نحو سبع عشرة سنة إلى الأربعين وأخرى هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين واختاره بعضهم هنا وعلل بأن ذلك لموافقته لقوله تعالى: حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة لأنه يشعر بأنه منته إلى الأربعين وهي سن الوقوف فينبغي أن يكون مبدؤه مبدأه ولا يخلو عن شيء والحق أن بلوغ الأشد في الأصل هو الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت انتهاء النمو وغايته وهذا مما يختلف باختلاف الأقاليم والأعصار والأحوال ولذا وقع له تفاسير في كتب اللغة والتفسير، ولعل الأولى على ما قيل: أن يقال إن بلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقواه الجسمانية وينتهي فيه نموه المعتد به والاستواء اعتدال عقله وكماله ولا ينبغي تعيين وقت لذلك في حق موسى عليه السلام إلا بخبر يعول عليه لما سمعت من أن ذاك مما يختلف باختلاف الأقاليم والأعصار والأحوال نعم اشتهر أن ذلك في الأغلب يكون في سن أربعين وعليه قول الشاعر:

[ ص: 52 ]

إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر     فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى
وإن جر أسباب الحياة له العمر



وفي قوله تعالى: حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ما يستأنس به لذلك، وقد مر طرف من الكلام في الأشد في سورة يوسف فتذكر ولا تغفل. ثم إن حاصل المعنى على ما قيل أخيرا: ولما قوي جسمه، واعتدل عقله آتيناه حكما أي نبوة على ما روي عن السدي أو علما هو من خواص النبوة على ما تأول به بعضهم كلامه وعلما بالدين والشريعة. وفي الكشاف العلم التوراة والحكم السنة وحكمة الأنبياء عليهم السلام سنتهم. قال الله تعالى: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة وقيل آتيناه سيرة الحكماء العلماء وسمتهم قبل البعث، فكان عليه السلام لا يفعل فعلا يستجهل فيه اهـ، ورجح ما قيل بأنه أوفق لنظم القصة مما تقدم، لأن استنباءه عليه السلام بعد وكز القبطي، والهجرة إلى مدين، ورجوعه منها، وإيتاؤه التوراة كان بعد إغراق فرعون، فهو بعد الوكز بكثير وبأن قوله تعالى: وكذلك أي مثل ذلك الذي فعلناه بموسى وأمه عليهما السلام نجزي المحسنين على إحسانهم يأبى حمل ما تقدم على النبوة لأنها لا تكون جزاء على العمل، ومن ذهب إلى الأول جعل هذا بيانا إجماليا لإنجاز الوعد بجعله من المرسلين بعد رده لأمه، وما بعد تفصيل له، والعطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وكون ما فعل بموسى وأمه عليهما السلام جزاء على العمل باعتبار التغليب. وقد يقال: إن أصل النبوة وإن لم تكن جزاء على العمل إلا أن بعض مراتبها، وهو ما فيه مزيد قرب من الله تعالى يكون باعتبار مزيد القرب جزاء عليه ويرجع ذلك إلى أن مزيد القرب هو الجزاء وتفاوت الأنبياء عليهم السلام في القرب منه تعالى مما لا ينبغي أن يشك فيه، ورجح ما تقدم بكونه أوفق بقوله تعالى: ولتعلم أن وعد الله حق واستلزامه حصول النبوة لكل محسن ليس بشيء أصلا، ومن ذهب إلى أن هذا الإيتاء كان قبل الهجرة قال: يجوز أن يكون المعنى آتيناه رياسة بين قومه بني إسرائيل بأن جعلناه ممتازا فيما بينهم، يرجعون إليه في مهامهم، ويمتثلونه إذا أمرهم بشيء أو نهاهم عنه، وعلما ينتفع به وينفع به غيره، وذلك إما بمحض الإلهام، أو بتوفيقه لاستنباط دقائق وأسرار مما نقل إليه من كلمات آبائه الأنبياء عليهم السلام من بني إسرائيل ولا بدع في أن يكون عليه السلام عالما بما كان عليه آباؤه الأنبياء منهم وبما كانوا يتدينون به من الشرائع بواسطة الإلهام أو بسماع ما يفيده العلم من الأخبار، ولعل هذا أولى مما نقله في الكشاف. وفي الكلام على أواخر سورة البقرة ما تنفعك مراجعته فليراجع.

التالي السابق


الخدمات العلمية