صفحة جزء
فإن حاجوك أي جادلوك في الدين بعد أن أقمت الحجج، والضمير للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، قاله الحسن، وقال أبو مسلم: لجميع الناس، وقيل: وفد نصارى نجران; وإلى هذا يشير كلام محمد بن جعفر بن الزبير فقل أسلمت وجهي لله أي أخلصت [ ص: 108 ] وخضعت بقلبي وقالبي لله لا أشرك به غيره، وفيه إشارة إلى أن الجدال معهم ليس في موقعه لأنه إنما يكون في أمر خفي والذي جادلوا به أمر مكشوف، وحكم حاله معروف وهو الدين القويم فلا تكون المحاجة والمجادلة إلا مكابرة، وحينئذ يكون هذا القول إعراضا عن مجادلتهم، وقيل: إنه محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقا للعبادة، فكأنه قال: هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه، وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك فاليهود يدعون التشبيه والجسمية، والنصارى يدعون إلهية عيسى عليه السلام والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون فعليهم الإثبات، ونظير ذلك قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ، وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه السلام: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض فكأنه قيل: فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريق إبراهيم عليه السلام، وأنتم معترفون بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن ولعل القول بالإعراض أولى لما فيه من الإشارة إلى سوء حالهم وحط مقدارهم، وعبر عن الجملة -بالوجه- لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادة وبه يحصل التوجه إلى كل شيء، وفتح الياء نافع وابن عامر وحفص وسكنها الباقون.

ومن اتبعن عطف على الضمير المتصل في أسلمت وحسن للفصل، أو مفعول معه، وأورد عليهما أنهما يقتضيان اشتراكهم معه صلى الله عليه وسلم في إسلام وجهه وليس المعنى: أسلمت وجهي وهم أسلموا وجوههم إذ لا يصح -أكلت رغيفا وزيدا، وقد أكل كل منهما رغيفا، فالواجب أن يكون (من) مبتدأ والخبر محذوف، أي: ومن اتبعن كذلك، أو يكون معطوفا على الجلالة وإسلامه صلى الله عليه وسلم لمن اتبعه بالحفظ والنصيحة، وأجيب بأن فهم المعنى وعدم الإلباس يسوغ كلا الأمرين ويستغني بذلك عن مئونة الحذف وتكلف خلاف الظاهر جدا، وأثبت الياء في (اتبعني) على الأصل أبو عمرو ونافع، وحذفها الباقون، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف، وقد جاء الحذف في مثل ذلك كثيرا كقول الأعشى:


فهل يمنعني ارتيادي البلا د من حذر الموت أن (يأتين)

وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين عطف على الجملة الشرطية، والمعنى فإن حاجك أهل الكتاب فقابلهم بذلك فإن أجدى فعمم الدعوة وقل للأسود والأحمر أأسلمتم متبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد جاءكم من الآيات ما يوجبه ويقتضيه أم أنتم على كفركم بآيات الله تعالى وإصراركم على العناد، وهذا كما تقول -إذا لخصت لسائل مسألة ولم تدع من طرق البيان مسلكا إلا سلكته -فهل فهمتها؟ على طرز فهل أنتم منتهون إثر تفصيل الصوارف عن تعاطي ما حرم تعاطيه، وفي ذلك تعيير لهم بالمعاندة وقلة الإنصاف وتوبيخ بالبلادة وجمود القريحة، والكثيرون على أن الاستفهام للتقرير وفي ضمنه الأمر، ووضع الموصول موضع الضمير لرعاية التقابل بين المتعاطفين، والمراد من الأميين الذين لا يكتبون من مشركي العرب، قاله ابن عباس وغيره.

فإن أسلموا أي اتصفوا بالإسلام والدين الحق فقد اهتدوا على تضمين معنى الخروج أي اهتدوا خارجين من الضلال كذا قيل، وبعض يفسر الاهتداء باللازم وهو النفع أي فقد نفعوا أنفسهم قالوا: وسبب [ ص: 109 ] إخراجه عن ظاهره أن الإسلام عين الاهتداء فإن فسر على الأصل اتحد الشرط والجزاء، وفيه منع ظاهر.

وإن تولوا أي أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا فإنما عليك البلاغ قائم مقام الجواب، أي لا يضرك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه، وهذا قبل الأمر بالقتال فهو منسوخ بآية السيف، والله بصير بالعباد [ 20 ] تذييل فيه وعد على الإسلام ووعيد على التولي عنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية