صفحة جزء
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ذهب جمع من الرجال إلى أن المعنى ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء أي من نساء عصركن، أي إن كل واحدة منكن أفضل من كل واحدة منهن لما امتازت بشرف الزوجية لرسول الله وأمومة المؤمنين (فأحد) باق على كونه وصف مذكر، إلا أن موصوفه محذوف ولا بد من اعتبار الحذف في جانب المشبه كما أشير إليه، وقال الزمخشري : أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، وقد استعمل بمعنى المتعدد أيضا في قوله تعالى: ولم يفرقوا بين أحد منهم [النساء: 152] لمكان ( بين ) المقتضية للدخول على متعدد، وحمل أحد على الجماعة على ما في الكشف ليطابق المشبه، والمعنى على تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم على نساء غيره لا النظر إلى تفضيل واحدة على واحدة من آحاد النساء فإن ذلك ليس مقصودا من هذا السياق ولا يعطيه ظاهر اللفظ.

وكون ذلك أبلغ لما يلزم عليه تفضيل جماعتهن على كل جماعة ولا يلزم ذلك تفضيل كل واحدة على كل واحدة من آحاد النساء لو سلم لكان إذا ساعده اللفظ والمقام، واعترضه أيضا بعضهم بأنه يلزم عليه أن يكون كل واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من فاطمة رضي الله تعالى عنها مع أنه ليس كذلك. [ ص: 4 ]

وأجيب عن هذا بأنه لا مانع من التزامه إلا أنه يلتزم كون الأفضلية من حيث أمومة المؤمنين والزوجية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا من سائر الحيثيات فلا يضر فيه كون فاطمة رضي الله تعالى عنها أفضل من كل واحدة منهن لبعض الحيثيات الأخر بل هي من بعض الحيثيات كحيثية البضعية أفضل من كل من الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

نعم أورد على ما في الكشاف أن أحدا الموضوع في النفي العام همزته أصلية غير منقلبة عن الواحد، وقد نص على ذلك أبو علي ، وخالف فيه الرضي فنقل عنه أن همزة أحد في كل مكان بدل من الواو، والمشهور التفرقة بين الواقع في النفي العام والواقع في الإثبات بأن همزة الأول أصلية وهمزة الثاني منقلبة عن الواو.

وفي (العقد المنظوم في ألفاظ العموم) للفاضل القرافي قد أشكل هذا على كثير من الفضلاء لأن اللفظين صورتهما واحدة ومعنى الوحدة يتناولهما والواو فيها أصلية فيلزم قطعا انقلاب ألف أحد مطلقا عنها وجعل ألف أحدهما منقلبا دون ألف الآخر ، وقد أطلعني الله تعالى على جوابه وهو أن أحدا الذي لا يستعمل إلا في النفي معناه إنسان بإجماع أهل اللغة وأحدا الذي يستعمل في الإثبات معناه الفرد من العدد فإذا تغاير مسماهما تغاير اشتقاقهما لأنه لا بد فيه من المناسبة بين اللفظ والمعنى ولا يكفي فيه أحدهما، فإذا كان المقصود به الإنسان فهو الذي لا يستعمل إلا في النفي وهمزته أصلية، وإن قصد به العدد ونصف الاثنين فهو الصالح للإثبات والنفي وألفه منقلبة عن واو اه.

ولا يخفى أنه إذا سلم الفرق المذكور ينبغي أن تكون الهمزة هنا أصلية، وإلى أن همزة الواقع في النفي أصلية ذهب أبو حيان فقال: إن ما ذكره الزمخشري من قوله: ثم وضع في النفي العام إلخ غير صحيح، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن واحدا ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة وأحدا المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل وذكر النحويون أن مادته همزة وحاء ودال ومادة أحد بمعنى واحد أصله واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولا.

وذكر أن ما في قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله [البقرة: 285] يحتمل أن يكون الذي للنفي العام ويحتمل أن يكون بمعنى واحد، ويكون قد حذف معطوف، أي بين واحد وواحد من رسله، كما قال الشاعر:


فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل



وقال الراغب : أحد يستعمل على ضربين في النفي لاستغراق جنس الناطقين، ويتناول القليل والكثير على الاجتماع والانفراد، نحو ما في الدار أحد، أي لا واحد ولا اثنان فصاعدا لا مجتمعين ولا متفرقين، وهذا المعنى لا يمكن في الإثبات لأن نفي المتضادين يصح، ولا يصح إثباتهما، فلو قيل في الدار أحد، لكان إثبات أحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومتفرقين وهو بين الإحالة ولتناوله ما فوق الواحد صح نحو فما منكم من أحد عنه حاجزين [الحاقة: 47] وفي الإثبات على ثلاثة أوجه، استعماله في الواحد المضموم إلى العشرات كأحد عشر وأحد وعشرين، واستعماله مضافا أو مضافا إليه بمعنى الأول نحو أما أحدكما فيسقي [يوسف: 41] وقولهم يوم الأحد، واستعماله وصفا وهذا لا يصح إلا في وصفه تعالى شأنه، أما أصله- أعني وحد- فقد يستعمل في غيره سبحانه كقول النابغة :


كأن رحلي وقد زال النهار بنا     بذي الجليل على مستأنس وحد

انتهى.

وهو محتمل لدعوى انقلاب همزته عن واو مطلقا ولدعوى انقلابها عنها في الاستعمال الأخير. [ ص: 5 ]

ولا يخفى على المنصف أن كون المعنى في الآية ما ذكره الزمخشري أظهر، وتفضيل كل واحدة من نسائه صلى الله عليه وسلم على كل واحدة واحدة من سائر النساء لا يلزم أن يكون لهذه الآية بل هو لدليل آخر إما عقلي أو نص، مثل قوله تعالى: وأزواجه أمهاتهم [الأحزاب: 6] وقيل يجوز أن يكون ذلك لها فإنها تفيد بحسب عرف الاستعمال تفضيل كل منهن على سائر النساء، لأن فضل الجماعة على الجماعة يكون غالبا لفضل كل منها.

إن اتقيتن شرط لنفي المثلية وفضلهن على النساء وجوابه محذوف دل عليه المذكور والاتقاء بمعناه المعروف في لسان الشرع، والمفعول محذوف أي إن اتقيتن مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، والمراد إن دمتن على اتقاء ذلك ومثله شائع أو هو على ظاهره، والمراد به التهييج بجعل طلب الدنيا والميل إلى ما تميل إليه النساء لبعده من مقامهن بمنزلة الخروج من التقوى، أو شرط جوابه قوله تعالى: فلا تخضعن بالقول والاتقاء بمعناه الشرعي أيضا، وفي البحر أنه بمعنى الاستقبال أي إن استقبلتن أحدا فلا تخضعن، وهو بهذا المعنى معروف في اللغة، قال النابغة :


سقط النصيف ولم ترد إسقاطه     فتناولته واتقتنا باليد



أي استقبلتنا باليد، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلق فضلهن على التقوى ولا علق نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله تعالى في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى، وفيه أن اتقى بمعنى استقبل وإن كان صحيحا لغة، وقد ورد في القرآن كثيرا كقوله تعالى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب [الزمر: 24] إلا أنه لا يتأتى هاهنا لأنه لا يستعمل في ذلك المعنى إلا مع المتعلق الذي تحصل به الوقاية، كقوله سبحانه: بوجهه وقول النابغة باليد، وما استدل به أمره سهل، وظاهر عبارة الكشاف اختيار كون إن اتقيتن شرطا جوابه فلا تخضعن، وفسر إن اتقيتن بإن أردتن التقوى وإن كنتن متقيات مشيرا بذلك إلى أنه لا بد من تجوز في الكلام لأن الواقع أن المخاطبات متقيات، فإما أن يكون المقصود الأولى المبالغة في النهي فيفسر بإن أردتن التقوى، وإما أن يكون المقصود التهييج والإلهاب، فيفسر بإن كنتن متقيات، فليس في ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز كما توهم، وقد قرر ذلك في الكشف، ومعنى لا تخضعن بالقول لا تجبن بقولكن خاضعا، أي لينا خنثا على سنن كلام المريبات والمومسات، وحاصله لا تلن الكلام ولا ترققنه، وهذا على ما قيل في غير مخاطبة الزوج ونحوه كخاطبة الأجانب وإن كن محرمات عليهم على التأبيد.

روي عن بعض أمهات المؤمنين أنها كانت تضع يدها على فمها إذا كلمت أجنبيا تغير صوتها بذلك خوفا من أن يسمع رخيما لينا، وعد إغلاظ القول لغير الزوج من جملة محاسن خصال النساء جاهلية وإسلاما، كما عد منها بخلهن بالمال وجبنهن، وما وقع في الشعر من مدح العشيقة برخامة الصوت وحسن الحديث ولين الكلام فمن باب السفه كما لا يخفى. وعن الحسن أن المعنى لا تكلمن بالرفث، وهو كما ترى فيطمع الذي في قلبه مرض أي فجور وزنا، وبذلك فسره ابن عباس وأنشد قول الأعشى :


حافظ للفرج راض بالتقى     ليس ممن قلبه فيه مرض



والمراد نية أو شهوة فجور وزنا، وعن قتادة تفسيره بالنفاق، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: المرض مرضان فمرض زنا ومرض نفاق، ونصب (يطمع) [ ص: 6 ] في جواب النهي، وقرأ أبان ابن عثمان وابن هرمز «فيطمع» بالجزم وكسر العين لالتقاء الساكنين وهو عطف على محل فعل النهي على أنه نهي لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول كأنه قيل: فلا تخضعن بالقول فلا يطمع الذي في قلبه مرض، وقال أبو عمرو الداني : قرأ الأعرج وعيسى «فيطمع» بفتح الياء وكسر الميم، ونقلها ابن خالويه عن أبي السمال قال: وقد روي ذلك عن ابن محيصن ، وذكر أن الأعرج وهو ابن هرمز قرأ «فيطمع» بضم الياء وفتح العين وكسر الميم، أي فيطمع هو أي الخضوع بالقول. والذي مفعول أو الذي فاعل والمفعول محذوف، أي فيطمع الذي في قلبه مرض نفسه، وقلن قولا معروفا حسنا بعيدا عن الريبة غير مطمع لأحد، وقال الكلبي : أي صحيحا بلا هجر ولا تمريض، وقال الضحاك : عنيفا، وقيل أي قولا أذن لكم فيه، وقيل: ذكر الله تعالى وما يحتاج إليه من الكلام،

التالي السابق


الخدمات العلمية