صفحة جزء
ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من تلك الأخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى مكان، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: من أنباء الغيب أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما يشير إليه المقام، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وقوله تعالى: نوحيه إليك جملة مستقلة مبينة للأولى، والإيحاء إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء، وبمعنى الإلهام، والضمير في نوحيه عائد إلى ذلك في المشهور، واستحسن عوده إلى الغيب لأنه حينئذ يشمل ما تقدم من القصص وما لم يتقدم منها بخلاف ما إذا عاد إلى ذلك فإنه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى، وجوز أن تكون هذه الجملة خبرا عن المبتدأ قبلها، و من أنباء الغيب إما متعلق ب (نوحيه) أو حال من مفعوله أي: نوحيه حال كونه بعض أنباء الغيب، وجعله حالا من المبتدأ رأي البعض، وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير: الأمر ذلك فيكون (ذلك) خبرا لمبتدأ محذوف والجار والمجرور حال منه، وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الملك الجليل، وصيغة الاستقبال عند قوم للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد.

وما كنت لديهم أي عند المتنازعين، فالضمير عائد إلى غير مذكور دل عليه المعنى، والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون الأخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل: إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاء لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء، ونبه على ثبوت قصة مريم مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه السلام أيضا لما أن تلك هي المقصودة بالأخبار أولا، وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من تكفل فما خلت الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة، وروي عن قتادة أن المقصود من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام من شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها، وسيق ذلك تأكيدا لاصطفائها عليها السلام، ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد، ومع هذا هو أولى مما قيل: إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا عليه السلام، بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية ورواية، وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتفائها عند كل أحد.

إذ يلقون أقلامهم أي يرمونها ويطرحونها للاقتراع، والأقلام جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون [ ص: 159 ] بها التوراة واختاروها تبركا بها، وقيل: هي السهام من النشاب وهي القداح، وحكى الكازروني أنها كانت من نحاس وهي مأخوذة من القلم بمعنى القطع، ومنه قلامة الظفر وقد تقدم بيان كيفية الرمي وفي عدة الأقلام خلاف، وعن الباقر أنها كانت ستة، والظرف معمول للاستقرار العامل في لديهم وجعله ظرفا ل (كان) كما قال أبو البقاء ليس بشيء أيهم يكفل مريم من تتمة الكلام الأول، وجعله ابتداء استفهام مفسد للمعنى، ولما لم يصلح يلقون للتعلق بالاستفهام لزم أن يقدر ما يرتبط به النظام، فذكر الجل له ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقدر: ينظرون أيهم يكفل وحيث كان النظر مما يؤدي إلى الإدراك جاز أن يتعلق باسم الاستفهام كالأفعال القلبية كما صرح به ابن الحاجب وابن مالك في «التسهيل»، وثانيها: أن يقدر: ليعلموا أيهم يكفل، وعلى الأول الجملة حال مما قبلها، وعلى الثاني في موضع المفعول له، ولا يخفى أن الإلقاء سبب لنفس العلم لكنه سبب بعيد، والقريب هو النظر إلى ما ارتفع من الأقلام، وثالثها: أن يقدر يقولون أو ليقولوا أيهم، واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في تقدير يقولون ولا ينساق المعنى إليه بل هو مجرد إصلاح لفظي لموقع أيهم وأجيب بأنه مفيد، وينساق المعنى إليه بناء على أن المراد بالقول القول للبيان والتعيين، واعترض أيضا تقدير القول مقرونا بلام التعليل بأن هذا التعليل هنا مما لا معنى له، وأجيب بتأويله كما أول في سابقه، وقيل: يؤول بالحكم، أي: ليقولوا وليحكموا أيهم الخ، والسكاكي يقدر ههنا ينظرون ليعلموا، ولعل ذلك لمراعاة المعنى واللفظ، وإلا فتقدير النظر أو العلم يغني عن الآخر، وبعض المحققين لم يقدر شيئا أصلا وجعل أيهم بدلا عن ضمير الجمع، أي يلقي كل من يقصد الكفالة وتتأتى منه، ولا يخفى أنه من التكلف بمكان.

وما كنت لديهم إذ يختصمون [ 44 ] في شأنها تنافسا على كفالتها وكان هذا الاختصام بعد الاقتراع في رأي، وقبله في آخر، وتكرير " ما كنت لديهم " مع تحقق المقصود بعطف إذ يختصمون على إذ يلقون للإيذان بأن كل واحد من عدم الحضور عند الإلقاء، وعدم الحضور عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته صلى الله عليه وسلم لا سيما على الرأي الثاني في وقت الاختصام لأن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد لذلك، قاله شيخ الإسلام .

واختلف في وقت هذا الاقتراع والتشاح على قولين: أحدهما، وهو المشهور المعول عليه: أنه كان حين ولادتها وحمل أمها لها إلى الكنيسة على ما أشرنا إليه من قبل، وثانيهما: أنه كان وقت كبرها وعجز زكريا عليه السلام عن تربيتها، وهو قول مرجوح، وأوهن منه قول من زعم أن الاقتراع وقع مرتين، مرة في الصغر وأخرى في الكبر.

وفي هذه الآية دلالة على أن القرعة لها دخل في تمييز الحقوق، وروي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المحق، وقال أي قضية أعدل من القضية إذا فوض الأمر إلى الله سبحانه، أليس الله تعالى يقول: فساهم فكان من المدحضين وقال الباقر رضي الله تعالى عنه: أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ثم تلا وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية