صفحة جزء
وجاء من أقصى المدينة أي: من أبعد مواضعها رجل؛ أي رجل عند الله تعالى؛ فتنوينه للتعظيم، وجوز أن يكون التنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطؤوا معه واسمه - على ما روي عن ابن عباس وأبي مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل - حبيب وهو ابن إسرائيل على ما قيل، وقيل: ابن مري، وكان على المشهور نجارا، وقيل: كان حراثا، وقيل: قصارا، وقيل: إسكافا، وقيل: نحاتا للأصنام، ويمكن أن يكون جامعا لهذه الصفات، وذكر بعضهم أنه كان في غار مؤمنا يعبد ربه عز وجل فلما سمع أن قومه كذبوا الرسل جاء يسعى؛ أي: يعدو ويسرع في مشيه حرصا على نصح قومه، وقيل: إنه يسمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصدي وجه الله تعالى بالذب عنهم، ف: "سعى" هنا مثلها في قوله تعالى: وسعى لها سعيها [الإسراء: 19] وهو مجاز مشهور وكونه في غار لا ينافي مجيئه من أقصى المدينة لجواز أن يكون في أقصاها غار، نعم؛ هذا القول ظاهر في أنه كان مؤمنا وهو ينافي أنه كان نحاتا للأصنام.

وأجيب بأن المراد ينحت التماثيل لا للعبادة وكان في تلك الشريعة مباحا، وحكي القول بإيمانه عن ابن أبي ليلى ونقل في البحر عنه أنه قال: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين علي بن أبي طالب وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون.

وذكر الزمخشري وجماعة هذا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا ذكروا أنه ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن أحد بنبي غيره عليه الصلاة والسلام قبل ظهوره.وقيل: كان مجذوما، وكان منزله أقصى باب من أبواب المدينة، عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره فلم يكشف، فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله تعالى قال: هل من آية؟ قالوا: نعم. ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك. فقال: إن هذا لعجب؛ لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع تفريجه فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر. فآمن ودعوا ربهم سبحانه فكشف عز وجل ما به كأن لم يكن به بأس، فأقبل على التكسب، فإذا أمسى تصدق بنصف كسبه، وأنفق النصف الآخر على نفسه وعياله، فلما هم قومه بقتل الرسل جاء من أقصى المدينة يسعى، وعلى هذا نحته للأصنام غير مشكل ولا يحتاج إلى ذلك الجواب البعيد، نعم بين هذا وبين خبر: "سباق الأمم ثلاثة" وأنه ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما آمن تبع منافاة، وكون إيمانه به عليه الصلاة والسلام إنما كان على يد الرسل وإن كان خلاف الظاهر دافع للمنافاة بينه وبين الأخير فتبقى المنافاة بينه وبين الخبر الأول إلا أن يقال: المراد سباق الأمم إلى الإيمان بعد الدعوة ثلاثة لم يكفروا بعدها قط طرفة عين، ومما يدل بظاهره أن الرجل لم يكن قبل مؤمنا ما حكي أن المرسلين اللذين أرسلا [ ص: 226 ] أولا لما قربا إلى المدينة رأياه يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال: أمعكما آية؟ فقالا: نشفي المريض، ونبرئ الأكمه والأبرص، وكان له ولد مريض فمسحاه فبرئ فآمن، وحمل: "آمن" على أظهر الإيمان خلاف الظاهر، والذي يترجح في نظري أنه كان مؤمنا بالمرسلين قبل مجيئه ونصحه لقومه ولا جزم لي بإيمانه ولا عدمه قبل إرسال الرسل، وظواهر الأخبار في ذلك متعارضة، ومع هذا لم يتحقق عندي صحة شيء منها. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

وجاء من أقصى المدينة هنا مقدما على "رجل" عكس ما جاء في القصص، وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة.

وقال الخفاجي: قدم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بيانا لفضله؛ إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم وإن بعده لم يمنعه عن ذلك؛ ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة، وأن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرب أو بعد، وقيل: قدم للاهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة؛ فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين، وقيل: إنه لو أخر توهم تعلقه ب: "يسعى" فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها؛ وهو المقصود، وجملة: "يسعى" صفة "رجل" وجوز كونها حالا منه من جوز مجيء الحال من النكرة، وقوله تعالى: "قال" استئناف بياني؛ كأنه قيل: فماذا قال عند مجيئه؟ فقيل: قال يا قوم اتبعوا المرسلين وجوز كونه بيانا للسعي؛ بمعنى قصد وجه الله عز وجل. ولا يخفى ما فيه، والتعرض لعنوان رسالتهم لحثهم على اتباعهم كما أن خطابهم ب: "يا قوم" لتأليف قلوبهم واستمالتها نحو قبول نصيحته.

التالي السابق


الخدمات العلمية