صفحة جزء
الفاء في قوله تعالى: فآمنوا فإن أولئك لم يؤمنوا عقيب إرساله الأول بل بعد ما فارقهم. وأجيب بأنه تعقيب عرفي نحو: تزوج فولد له. وقيل: الأقرب أن الفاء للتفصيل، أو السببية، وقيل: هو إرسال ثان إليهم بعد أن أصابه ما أصابه، فالعطف على ما عنده.

وأورد عليه أن المروي أنهم بعد مفارقته لهم رأوا العذاب أو خافوه، فآمنوا، فقوله تعالى: فآمنوا في النظم الجليل هنا يأبى عن حمله على إرسال ثان. وأجيب بأنه يجوز أن يكون الإيمان المقرون بحرف التعقيب إيمانا مخصوصا، أو أن آمنوا، بتأويل أخلصوا الإيمان، وجددوه، لأن الأول كان إيمان بأس، وقيل: هو إرسال إلى غيرهم، وقيل: إن الأولين بعد أن آمنوا سألوه أن يرجع إليهم، فأبى لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم، وقال لهم: إن الله تعالى باعث إليكم نبيا.

وفي خبر طويل أخرجه أحمد في الزهد، وجماعة عن ابن مسعود أنه - عليه السلام - بعد أن نبذ بالعراء، وأنبت الله تعالى عليه الشجرة، وحسن حاله، خرج فإذا هو بغلام يرعى غنما، فقال: ممن أنت يا غلام؟ قال: من قوم يونس ، قال: فإذا رجعت إليهم فأقرئهم السلام وأخبرهم أنك لقيت يونس ، فقال له الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل، فمن يشهد لي؟ قال: تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة، فقال الغلام ليونس : مرهما، فقال لهما يونس : إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم، فرجع الغلام إلى قومه، وكان له إخوة، فكان في منعة، فأتى الملك، فقال: إني لقيت يونس ، وهو يقرأ عليكم السلام، فأمر به الملك أن يقتل، فقال: إن لي بينة فأرسل معه، فانتهوا إلى الشجرة والبقعة، فقال لهما الغلام: نشدتكما بالله، هل أشهدكما يونس ؟ قالتا: نعم، فرجع القوم مذعورين يقولون: تشهد لك الشجرة والأرض، فأتوا الملك، فحدثوه بما رأوا، فتناول الملك يد الغلام، فأجلسه في مجلسه وقال: أنت أحق بهذا المكان مني، وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة.

وهذا دال بظاهره أنه - عليه السلام - لم يرجع بعد أن أصابه ما أصابه إليهم، فإن صح يراد بالإرسال هنا إما الإرسال الأول الذي تضمنه قوله - تعالى - : وإن يونس لمن المرسلين ، وإما إرسال آخر إلى غير أولئك القوم، والمعروف عند أهل الكتاب أنه - عليه السلام - لم يرسل إلا إلى أهل نينوى، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تفصيل قصته عندهم، (وأو)، على ما نقل عن ابن عباس بمعنى بل، وقيل: بمعنى الواو، وبها قرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما، وقيل: للإبهام على المخاطب، وقال المبرد ، وكثير من البصريين: للشك نظرا إلى الناظر من البشر على معنى: من رآهم شك في عددهم، وقال: مائة ألف، أو يزيدون، والمقصود بيان كثرتهم، أو أن الزيادة ليست كثيرة كثرة مفرطة كما يقال: هم ألف وزيادة، وقال ابن كمال : المراد يزيدون باعتبار آخر، وذلك أن المكلفين بالفعل منهم كانوا مائة ألف، وإذا ضم إليهم المراهقون الذين بصدد التكليف كانوا أكثر، ومن ها هنا ظهر وجه التعبير بصيغة التجدد دون الثبات. وتعقب بأنه مع أن المناسب له الواو تكلف ركيك، وأقرب منه أن الزيادة بحسب الإرسال الثاني، ويناسبه صيغة التجدد، وإن كانت للفاصلة، وهو معطوف على جملة: أرسلناه بتقديرهم يزيدون لا على مائة بتقدير أشخاص يزيدون، أو تجريده للمصدرية [ ص: 148 ] فإنه ضعيف، والزيادة على ما روي عن ابن عباس ثلاثون ألفا، وفي أخرى عنه: بضعة وثلاثون ألفا، وفي أخرى: بضعة وأربعون ألفا، وعن نوف، وابن جبير: سبعون ألفا، وأخرج الترمذي، وابن جرير ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه، عن أبي بن كعب، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون قال: يزيدون عشرين ألفا.

وإذا صح هذا الخبر بطل ما سواه.

فمتعناهم ، بالحياة، إلى حين إلى آجالهم المسماة في الأزل قاله قتادة والسدي، وزعم بعضهم أن تمتيعهم بالحياة إلى زمان المهدي، وهم إذا ظهر من أنصاره فهم اليوم أحياء في الجبال والقفار لا يراهم كل أحد، كالمهدي عند الإمامية ، والخضر عند بعض العلماء والصوفية، وربما يكشف لبعض الناس فيرى أحدا منهم، وهو كذب مفترى، ولعل عدم ختم هذه القصة، والقصة التي قبلها بنحو ما ختم به سائر القصص من قوله تعالى: وتركنا عليه في الآخرين /" سلام " إلخ، تفرقة بين شأن لوط، ويونس عليهما السلام، وشأن أصحاب الشرائع الكبر، وأولي العزم من المرسلين مع الاكتفاء فيهما بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور في آخر السورة، ولتأخرهما في الذكر قربا منه، والله تعالى أعلم. والمذكور في شأنيونس - عليه السلام - في كتب أهل الكتاب أن الله - عز وجل - أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى، وكانت إذ ذاك عظيمة جدا لا تقطع إلا في نحو ثلاثة أيام، وكانوا قد عظم شرهم، وكثر فسادهم، فاستعظم الأمر، وهرب إلى ترسيس، فجاء يافا، فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر، وأعطى الأجرة، وركب السفينة فهاجت ريح عظيمة، وكثرت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق، ففزع الملاحون، ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه، فتقدم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائما؟ قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه، ولا يهلكنا، وقال بعضهم لبعض: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه، فتقارعوا، فوقعت القرعة على يونس ، فقالوا له: أخبرنا ماذا عملت، ومن أين أتيت وإلى أين تمضي، ومن أي كورة أنت؟ ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبد الرب إله السماء خالق البر والبحر، وأخبرهم خبره، فخافوا خوفا عظيما. وقالوا له: لم صنعت ما صنعت يلومونه على ذلك، ثم قالوا له: ما نصنع الآن بك ليسكن البحر عنا؟ فقال: ألقوني في البحر، يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم، فجهد الرجال أن يردوها إلى البر، فلم يستطيعوا فأخذوا يونس ، وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة، فسكن البحر، وأمر الله تعالى حوتا عظيما فابتلعه، فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال، وصلى في بطنه إلى ربه، واستغاث به، فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس، ثم قال - عز وجل - له: قم وامض إلى نينوى، وناد في أهلها كما أمرتك من قبل فمضى - عليه السلام - ونادى، وقال: تخسف نينوى بعد ثلاثة أيام، فآمنت رجال نينوى بالله تعالى ونادوا بالصيام، ولبسوا المسوح جميعا ووصل الخبر إلى الملك، فقام عن كرسيه ونزع حلته، ولبس مسحا، وجلس على الرماد، ونودي: أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعاما ولا شرابا، وجأروا إلى الله تعالى، ورجعوا عن الشر، والظلم، فرحمهم الله تعالى، فلم ينزل بهم العذاب، فحزن يونس ، وقال: إلهي، من هذا هربت، فإني علمت أنك الرحيم الرؤوف الصبور التواب يا رب خذ نفسي، فالموت خير لي من الحياة، فقال: يا يونس ، حزنت من هذا جدا؟ فقال: نعم، يا رب، وخرج يونس وجلس مقابل المدينة، وصنع له هناك مظلة، وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة [ ص: 149 ] فأمر الله تعالى يقطينا، فصعد على رأسه ليكون ظلاله من كربه، ففرح باليقطين فرحا عظيما، وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف، ثم هبت ريح سموم، وأشرقت الشمس على رأس يونس - عليه السلام - فعظم الأمر عليه واستطيب الموت، فقال له الرب: يا يونس ، أحزنت جدا على اليقطين؟ فقال: نعم يا رب، حزنت جدا، فقال سبحانه: حزنت عليه، وأنت لم تتعب فيه، ولم تربه بل صار من ليلته، وهلك من ليلته، فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها سكان أكثر من اثني عشر ربوة من الناس، قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى، وفيه من المخالفة للحق ما فيه، ولتطلع على حاله نقلته لك وكم لأهل الكتاب من باطل.

التالي السابق


الخدمات العلمية