صفحة جزء
ما كان إبراهيم يهوديا كما قالت اليهود ولا نصرانيا كما قالت النصارى ولكن كان حنيفا أي مائلا عن العقائد الزائغة مسلما أي منقادا لطاعة الحق، أو موحدا، لأن الإسلام يرد بمعنى التوحيد أيضا; قيل: وينصره قوله تعالى: وما كان من المشركين [ 67 ] أي عبدة الأصنام كالعرب الذي كانوا يدعون [ ص: 196 ] أنهم على دينه، أو سائر المشركين ليعم أيضا عبدة النار كالمجوس، وعبدة الكواكب كالصابئة، وقيل: أراد بهم اليهود والنصارى لقول اليهود: عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وأصل الكلام وما كان منكم، إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر للتعريض بأنهم مشركون، والجملة حينئذ تأكيد لما قبلها، وتفسير الإسلام بما ذكر هو ما اختاره جمع من المحققين وادعوا أنه لا يصح تفسيره هنا بالدين المحمدي لأنه يرد عليه أنه كان بعده بكثير فكيف يكون مسلما؟ فيكون كادعائهم تهوده وتنصره المردود بقوله سبحانه: وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده فيرد عليه ما ورد عليهم، ويشترك الإلزام بينهما، وفسره بعضهم بذلك، وأجاب عن اشتراك الإلزام بأن القرآن أخبر بأن إبراهيم كان مسلما وليس في التوراة والإنجيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يهوديا أو نصرانيا فظهر الفرق.

قال العلامة النيسابوري: فإن قيل: قولكم: إن إبراهيم عليه السلام على دين الإسلام إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصا بدين الإسلام، وإن أردتم في الفروع لزم أن لا يكون نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب شريعة بل مقررا لشرع من قبله، قيل: يختار الأول، والاختصاص ثابت لأن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزير عليه السلام إلى غير ذلك، أو الثاني، ولا يلزم ما ذكر لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى عليه السلام، ثم نسخ نبينا صلى الله عليه وسلم شرع موسى بشريعته التي هي موافقة لشريعة إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيكون عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع، انتهى.

ولا يخفى ما في الجواب على الاختيار الثاني من مزيد البعد بل عدم الصحة، لأن نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى، ثم نسخ شريعة موسى بشريعة نبينا عليهم الصلاة والسلام الموافقة لشريعة إبراهيم لا يجعل نبينا صاحب شريعة جديدة، بل يقال له أيضا: إنه مقرر لشرع من قبله وهو إبراهيم عليه السلام، وأيضا موافقة جميع فروع شريعتنا لجميع فروع شريعة إبراهيم مما لا يمكن بوجه أصلا إذ من جملة فروع شريعتنا فرضية قراءة القرآن في الصلاة، ولم ينزل على غير نبينا صلى الله عليه وسلم بالبديهة، ونحو ذلك كثير.

وموافقة المعظم في حيز المنع ودون إثباتها الشم الراسيات، وقوله تعالى: أن اتبع ملة إبراهيم ليس بالدليل على الموافقة في الفروع إذ الملة فيه عبارة عن التوحيد أو عنه وعن الأخلاق كالهدى في قوله تعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده .

واعترض الشهاب على الجواب على الاختيار الأول بالبعد كاعتراضه على الجواب على الاختيار الثاني بمجرده أيضا، وذكر أن ذلك سبب عدول بعض المحققين عما يقتضيه كلام هذا العلامة من أن المراد بكون إبراهيم مسلما أنه على ملة الإسلام إلى أن المراد بذلك أنه منقاد بحمل الإسلام على المعنى اللغوي، وادعى أنه سالم من القدح، ونظر فيه بأن أخذ الإسلام لغويا لا يناسب بحث الأديان والكلام فيه، فلا يخلو هذا الوجه عن بعد، ولعله لا يقصر عما ادعاه من بعد الجواب الأول كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم.

هذا وفي الآية وجه آخر، ولعله يخرج من بين فرث ودم وهو أن أهل الكتاب لما تنازعوا فقالت اليهود إبراهيم منا، وقالت النصارى إنه منا أرادت كل طائفة أنه عليه السلام كان إذ ذاك على ما هو عليه الآن من الحال وهو حال مخالف لما عليه نبيهم في نفس الأمر موافق له زعما على معنى موافقة الأصول للأصول، [ ص: 197 ] أو الموافقة فيما يعد في العرف موافقة ولو لم تكن في المعظم وليست هذه الدعوى من البطلان بحيث لا تخفى على أحد فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أي، وليسا مشتملين على ذلك، وهو من الحري بالذكر لو كان، ثم أشار سبحانه إلى ما هم عليه من الحماقة على وجه أتم، ثم صرح سبحانه بما أشار أولا فقال: ما كان إبراهيم يهوديا أي من الطائفة اليهودية المخالفة لما جاء به موسى عليه السلام في نفس الأمر ولا نصرانيا أي من الطائفة النصرانية المخالفة لما جاء به عيسى عليه السلام كذلك ولكن كان حنيفا مسلما أي على دين الإسلام الذي ليس عند الله دين مرضي سواه، وهو دين جميع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، وفي ذلك إشارة إلى أن أولئك اليهود والنصارى ليسوا من الدين في شيء لمخالفتهم في نفس الأمر لما عليه النبيان بل الأنبياء، ثم أشار إلى سبب ذلك بما عرض به من قوله سبحانه: وما كان من المشركين ، فعلى هذا يكون المسلم -كما قال الجصاص وأشرنا إليه فيما مر مرارا- المؤمن ولو من غير هذه الأمة خلافا للسيوطي في زعمه أن الإسلام مخصوص بهذه الأمة هذا ما عندي في هذا المقام، فتدبر، فلمسلك الذهن اتساع.

التالي السابق


الخدمات العلمية