صفحة جزء
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم أي أفرطوا في المعاصي جائين عليها ، وأصل الإسراف الإفراط في صرف المال ثم استعمل فيما ذكر مجازا بمرتبتين على ما قيل ، وقال الراغب : هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر وهذا ظاهر في أنه حقيقة فيما ذكرنا وهو حسن .

وضمن معنى الجناية ليصح تعديه بعلى والمضمن لا يلزم فيه أن يكون معناه حقيقيا ، وقيل : هو مضمن معنى الحمل ، وحمل غير واحد الإضافة في ( عبادي ) على العهد أو على التشريف ، وذهبوا إلى أن المراد بالعباد المؤمنون وقد غلب استعماله فيهم مضافا إليه عز وجل في القرآن العظيم فكأنه قيل : أيها المؤمنون المذنبون لا تقنطوا من رحمة الله أي لا تيأسوا من مغفرته سبحانه وتفضله عز وجل على أن المغفرة مدرجة في الرحمة أو أن الرحمة مستلزمة لها لأنه لا يتصور الرحمة لمن لم يغفر له ، وتعليل النهي بقوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا يقتضي دخولها في المعلل ، والتذييل بقوله سبحانه : إنه هو الغفور الرحيم كالصريح في ذلك ، وجوز أن يكون في الكلام صنعة الاحتباك كأنه قيل : لا تقنطوا من رحمة الله ومغفرته إن الله يغفر الذنوب جميعا ويرحم ، وفيه بعد ، وقالوا : المراد بمغفرة الذنوب التجافي عنها وعدم المؤاخذة بها في الظاهر والباطن وهو المراد بسترها ، وقيل : المراد بها محوها من الصحائف بالكلية مع التجافي عنها وأن الظاهر إطلاق الحكم وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر كيف لا وقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء : 48] [ ص: 14 ] ظاهر في الإطلاق فيما عدا الشرك ، ويشهد للإطلاق أيضا أمور ، الأول نداؤهم بعنوان العبودية فإنها تقتضي المذلة وهي أنسب بحال العاصي إذا لم يتب واقتضاؤها للترحم ظاهر . الثاني الاختصار الذي تشعر به الإضافة إلى ضميره تعالى فإن السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه . الثالث تخصيص ضرر الإسراف المشعرة به «على » بأنفسهم فكأنه قيل : ضرر الذنوب عائد عليهم لا علي فيكفي ذلك من غير ضرر آخر كما في المثل أحسن إلى من أساء كفى المسيء إساءته ، فالعبد إذا أساء ووقف بين يدي سيده ذليلا خائفا عالما بسخط سيده عليه ناظرا لإكرام غيره ممن أطاع لحقه ضرر إذ استحقاق العقاب عقاب عند ذوي الألباب .

الرابع النهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة وإطلاقها . الخامس إضافة الرحمة إلى الاسم الجليل المحتوي على جميع معاني الأسماء على طريق الالتفات فإن ذلك ظاهر في سعتها وهو ظاهر في شمولها التائب وغيره . السادس التعليل بقوله تعالى ( إن الله ) .. إلخ . فإن التعليل يحسن مع الاستبعاد وترك القنوط من الرحمة مع عدم التوبة أكثر استبعادا من تركه مع التوبة . السابع وضع الاسم الجليل فيه موضع الضمير لإشعاره بأن المغفرة من مقتضيات ذاته لا لشيء آخر من توبة أو غيرها . الثامن تعريف الذنوب فإنه في مقام التمدح ظاهر في الاستغراق فتشمل الذنب الذي يعقبه التوبة والذي لا تعقبه . التاسع التأكيد بالجميع . العاشر التعليل - بأنه هو -.. إلخ . . الحادي عشر التعبير بالغفور فإنه صيغة مبالغة وهي إن كانت باعتبار الكم شملت المغفرة جميع الذنوب أو باعتبار الكيف شملت الكبائر بدون توبة . الثاني عشر حذف معمول ( الغفور ) فإن حذف المعمول يفيد العموم . الثالث عشر إفادة الجملة الحصر فإن من المعلوم أن الغفران قد يوصف به غيره تعالى فالمحصور فيه سبحانه إنما هو الكامل العظيم وهو ما يكون بلا توبة الرابع عشر المبالغة في ذلك الحصر .

الخامس عشر الوعد بالرحمة بعد المغفرة فإنه مشعر بأن العبد غير مستحق للمغفرة لولا رحمته وهو ظاهر فيما إذا لم يتب . السادس عشر التعبير بصيغة المبالغة فيها . السابع عشر إطلاقها ، ومنع المعتزلة مغفرة الكبائر والعفو عنها من غير توبة وقالوا : إنها وردت في غير موضع من القرآن الكريم مقيدة بالتوبة فإطلاقها هنا يحمل على التقييد لاتحاد الواقعة وعدم احتمال النسخ ،

التالي السابق


الخدمات العلمية