صفحة جزء
وأشرقت الأرض أي أرض المحشر وهي الأرض المبدلة من الأرض المعروفة . وفي الصحيح يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد وهي أوسع بكثير من الأرض المعروفة . وفي بعض الروايات أنها يومئذ من فضة ولا يصح ، أي أضاءت بنور ربها هو على ما روي عن ابن عباس نور [ ص: 30 ] يخلقه الله تعالى بلا واسطة أجسام مضيئة كشمس وقمر ، واختاره الإمام وجعل الإضافة من باب ( ناقة الله ) [الأعراف : 73 ، هود : 64 ، الشمس : 13] وعن محيي السنة تفسيره بتجلي الرب لفصل القضاء ، وعن الحسن والسدي تفسيره بالعدل وهو من باب الاستعارة وقد استعير لذلك وللقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل أي وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه سبحانه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات ، واختار هذا الزمخشري وصحح أولا تلك الاستعارة بتكررها في القرآن العظيم ، وحققها ثانيا بقوله : وينادي على ذلك إضافته إلى اسمه تعالى لأنه عز وجل هو الحق العدل إشارة إلى الصارف إلى التأويل ، وعينها ثالثها بإضافة اسمه تعالى الرب إلى الأرض لأن العدل هو الذي يتزين به الأرض لا البرهان مثلا ، ورابعا بما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق لأنه كله تفصيل العدل بالحقيقة ، وأيدها خامسا بالعرف العام فإن الناس يقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعد لك وأضاءت الدنيا بقسطك ، وسادسا بقوله صلى الله عليه وسلم : «الظلم ظلمات يوم القيامة » فإنه يقتضي أن يكون العدل نورا فيه ، وسابعا بأن فتح الآية وختمها بنفي الظلم يدل عليه ليكون من باب رد العجز على الصدر على طريقة الطرد والعكس . ورجح ما اختاره الإمام بأن الأصل الحقيقة ولا صارف لأن الإضافة تصح بأدنى ملابسة ، وأيد ما حكي عن محيي السنة ببعض الأحاديث .

وتعقب ذلك صاحب الكشف فقال : إن إضافة الملابسة مجاز والترجيح لما اختاره جار الله لما ذكر من الفوائد ولأنه الشائع في استعمال القرآن ، ألا ترى إلى قوله تعالى : الله نور السماوات والأرض [النور : 35] وأما تجلي الرب سبحانه فسواء حمل على تجلي الجلال أو تجلي الجمال لا يقتضي إشراق الأرض بنور إلا بأحد المعنيين أعني العدل أو عرضا يخلقه الله تعالى عند التجلي في الأرض فلو توهم من تجليه تعالى أنه ينعكس نور منه على الأرض لاستحال إلا بالتفسير المذكور فليس قولا ثالثا لينصر ويؤيد بالحديث الذي لا يدل على أنه تفسير الآية المشتمل على حديث الرؤية وإلقاء ستره تعالى على العبد يذكر ما فعل به وما جنى . انتهى . ولعل الأوفق بما يشعر به كثير من الأخبار أن قوله سبحانه : وأشرقت الأرض بنور ربها إشارة إلى تجليه عز وجل لفصل القضاء وقد يعبر عنه بالإتيان ، وقد صرح به في قوله تعالى : يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة [البقرة : 210] ولم يتأول ذلك السلف بل أثبتوه له سبحانه كالنزول على الوجه الذي أثبته عز وجل لنفسه .

ولا يبعد أن يكون هذا النور هو النور الوارد في الحديث الصحيح «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور » ويقال فيه كالحجاب نحو ما قال السلف في سائر المتشابهات أو هو نور آخر يظهر عند ذلك التجلي ، ولا أقول : هو نور منعكس من الذات المقدس انعكاس نور الشمس مثلا من الشمس بل الأمر فوق ما تنتهي إليه العقول ، وأنى وهيهات وكيف ومتى يتصور إلى حقيقة ذلك الوصول ، ويومئ إلى أن ذلك التجلي مقرون بالعدل التعبير بعنوان الربوبية مضافا إلى ضمير الأرض والله تعالى أعلم بمراده . وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير وأبو الجوزاء ( أشرقت ) بالبناء للمفعول قال الزمخشري : من شرقت بالضوء تشرق إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها الله تعالى كما تقول : ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا ، وقال ابن عطية : هذا إنما يترتب من فعل يتعدى فهذا [ ص: 31 ] على أن يقال : أشرق البيت وأشرقه السراج فيكون الفعل مجاوزا وغير مجاوز ، وقال صاحب اللوامح وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولا من شرقت الشمس إذا طلعت فيصير متعديا والمعنى أذهبت ظلمة الأرض ، ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت فإن ذلك لازم وهذا قد يتعدى إلى المفعول ( ووضع الكتاب ) قال السدي الحساب ، فالكتاب مجاز عن الحساب ووضعه ترشيح له ، والمراد به الشروع فيه ويجوز جعل الكلام تمثيلا .

وقال بعضهم : صحائف الأعمال وضعت بأيدي العمال فالتعريف للجنس أو الاستغراق ، وقيل : اللوح المحفوظ وضع ليقابل به الصحائف فالتعريف للعهد ، وروي هذا القول عن ابن عباس ، واستبعده أبو حيان وقال : لعله لا يصح عن ابن عباس وجيء بالنبيين قيل ليسألوا هل بلغوا أممهم ؟ وقيل : ليحضروا حسابهم والشهداء قال عطاء ومقاتل وابن زيد : الحفظة ، وكأنهم أرادوا أنهم يشهدون على كل من الأمم أنهم بلغوا أو يشهدون على كل بعمله كما قال سبحانه : وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد [ق : 21]

وفي بعض الآثار أنه يؤتى باللوح المحفوظ وهو يرتعد فيقال له : هل بلغت إسرافيل ؟ فيقول : نعم يا رب بلغته فيؤتى بإسرافيل وهو يرتعد فيقال له : هل بلغك اللوح ؟ فيقول : نعم يا رب فعند ذلك يسكن روع اللوح ثم يقال لإسرافيل فأنت هل بلغت جبرائيل ؟ فيقول : نعم يا رب فيؤتى بجبرائيل وهو يرتعد فيقال له : هل بلغك إسرافيل ؟ فيقول : نعم يا رب فعند ذلك يسكن روع إسرافيل ثم يقال لجبرائيل : فأنت هل بلغت ؟ فيقول : نعم يا رب فيؤتى بالمرسلين وهم يرتعدون فيقال لهم : هل بلغكم جبرائيل ؟

فيقولون : نعم فيسكن عند ذلك روع جبرائيل ثم يقال لهم : فأنتم هل بلغتم ؟ فيقولون : نعم فيقال للأمم : هل بلغكم الرسل ؟ فيقول كفرتهم : ما جاءنا من بشير ولا نذير فيعظم على الرسل الحال ويشتد البلبال فيقال لهم : من يشهد لكم ؟ فيقولون : النبي الأمي وأمته فيؤتى بالأمة المحمدية فيشهدون لهم أنهم بلغوا فيقال لهم : من أين علمتم ذلك ؟ فيقولون : من كتاب أنزله الله تعالى علينا ذكر سبحانه فيه أن الرسل بلغوا أممهم ويزكيهم النبي عليه الصلاة والسلام وذلك قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [البقرة : 143] ومن هنا قيل : المراد بالشهداء في الآية أمة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقال الجبائي وأبو مسلم هم عدول الآخرة يشهدون للأمم وعليهم ، وقيل : جميع الشهداء من الملائكة وأمة محمد عليه الصلاة والسلام والجوارح والمكان ، وأيا ما كان فالشهداء جمع شاهد ، وقال قتادة والسدي : المراد بهم المستشهدون في سبيل الله تعالى فهو جمع شهيد وليس بذاك وقضي بينهم أي بين العباد المفهوم من السياق بالحق بالعدل وهم لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد بناء على أن الظلم حقيقة لا يتصور في حقه تعالى فإن الأمر كله له عز وجل .

التالي السابق


الخدمات العلمية