صفحة جزء
قل يا أهل الكتاب لم تصدون أي تصرفون عن سبيل الله أي طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام من آمن أي بالله وبما جاء من عنده أو من صدق بتلك السبيل وآمن بذلك الدين بالفعل أو بالقوة القريبة منه بأن أراد ذلك وصمم عليه وهو مفعول لتصدون قدم عليه الجار للاهتمام به . ( تبغونها ) أي السبيل . ( عوجا ) أي اعوجاجا وميلا عن الاستواء ، ويستعمل مكسور العين في الدين والقول والأرض ، ومنه لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ويستعمل المفتوح في ميل كل شيء منتصب كالقناة والحائط مثلا ، وهو أحد مفعولي : تبغون ، فإن بغى يتعدى لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر باللام كما صرح به اللغويون ، وتعديته للهاء من باب الحذف والإيصال أي تبغون لها كما في قوله :


فتولى غلامهم ثم نادى أظليما أصيدكم أم حمارا



أراد أصيد لكم ، وقال ابن المنير : الأحسن جعل الهاء مفعولا من غير حاجة إلى تقدير الجار ، و ( عوجا ) حال وقع موقع الاسم مبالغة كأنهم طلبوا أن تكون الطريقة القويمة نفس المعوج ، وادعى الطيبي أن فيه نظرا إذ لا يستقيم المعنى إلا على أن يكون ( عوجا ) هو المفعول به لأنه مطلوبهم فلا بد من تقدير الجار وفيه تأمل ، وقيل : ( عوجا ) حال من فاعل تبغون ، والكلام فيه كالكلام في سابقه ، وجملة : تبغون - على كل حال إما حال من ضمير ( تصدون ) أو من – السبيل - وإما مستأنفة جيء بها كالبيان لذلك الصد ، والأكثرون على أنه كان بالتحريش والإغراء بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم ، كما دل عليه ما أوردناه في بيان سبب النزول ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب هم اليهود أيضا ، والتعبير عنهم بهذا العنوان لما تقدم ، وإعادة الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع والتوبيخ لهم على قبائحهم وتفصيلها ولو قيل : لم تكفرون بآيات الله وتصدون عن سبيل الله لربما توهم أن التوبيخ على مجموع الأمرين ، وقيل : الخطاب لأهل الكتاب مطلقا وكان صدهم عن السبيل بهتهم وتغييرهم صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وإلى هذا ذهب الحسن وقتادة ، وعن السدي كانوا إذا سألهم أحد هل تجدون محمدا في كتبكم ؟ قالوا : لا ، فيصدونه عن الإيمان به وهذا ذم لهم بالإضلال إثر ذمهم بالضلال .

وقرئ ( تصدون ) من أصد وأنتم شهداء حال إما من فاعل ( تصدون ) أو من فاعل ( تبغون ) ، والاستئناف خلاف الظاهر أي كيف تفعلون هذا وأنتم علماء عارفون بتقدم البشارة به صلى الله تعالى عليه وسلم مطلعون [ ص: 16 ] على صحة نبوته ، أو وأنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وصفتكم هذه تقتضي خلاف ما أنتم عليه وما الله بغافل عما تعملون ( 99 ) تهديد لهم على ما صنعوا قيل : لما كان كفرهم ظاهرا ناسب ذكر الشهادة معه في الآية السابقة ؛ لأنها تكون لما يظهر ويعلم ، أو ما هو بمنزلته - وصدهم عن سبيل الله - وما معه لما كان بالمكر والحيلة الخفية التي تروج على الغافل ناسب ذكر الغفلة معه في هذه الآية فلهذا ختم كلا من الآيتين بما ختم .

التالي السابق


الخدمات العلمية