صفحة جزء
مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كالدليل لعدم إغناء الأموال ، ولعل عدم بيان إغناء الأولاد ظاهر لأنهم إن كانوا كفارا - وهو الظاهر - كان حكمهم حكمهم وإن كانوا مسلمين كانوا عليهم لا لهم في الدنيا ، وبغضهم لهم في الآخرة يوم تبلى السرائر ، و يكشف عن ساق وتبريهم منهم حين يفر المرء من أمه وأبيه أظهر من أن يخفى ، و ( ما ) موصولة والعائد محذوف أي ينفقونه والإشارة للتحقير ، والمراد تمثيل جميع صدقات الكفار ونفقاتهم كيف كانت - وهو المروي عن مجاهد - وقيل : مثل لما ينفقه الكفار مطلقا في عداوة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : لما أنفقه قريش يوم بدر وأحد لما تظاهروا عليه عليه الصلاة والسلام ، وقيل : لما أنفقه سفلة اليهود على علمائهم المحرفين أي حال ذلك وقصته العجيبة كمثل ريح فيها صر أي برد شديد قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجماعة ، وقال الزجاج : الصر صوت لهيب النار وقد كانت في تلك الريح ، وقيل : أصل الصر كالصرصر ؛ الريح الباردة ، وعليه يكون معنى النظم ريح فيها ريح باردة ، وهو كما ترى محتاج إلى التوجيه ، وقد ذكر فيه أنه وارد على التجريد كقوله :


ولولا ذاك قد سومت مهري وفي الرحمن للضعفاء كاف



أي هو كاف ، ومنع بعضهم كونه في الأصل الريح الباردة وإنما هو مصدر بمعنى البرد كما قال الحبر ، واستعماله فيما ذكر مجاز وليس بمراد ، وقيل : إنه صفة بمعنى بارد إلا أن موصوفه محذوف أي برد بارد فهو من الإسناد المجازي كظل ظليل - وفيه بعد - لأن المعروف في مثله ذكر الموصوف ، وأما حذفه وتقديره فلم يعهد ، وقيل : هو في الأصل صوت الريح الباردة من صر القلم والباب صريرا إذا صوت ، أو من الصرة الضجة والصيحة ، وقد استعمل هنا على أصله ، وفيه أن هذا المعنى مما لم يعهد في الاستعمال ، والريح واحدة الرياح ، وفي الصحاح والأرياح ، وقد تجمع على أرواح لأن أصلها الواو ، وإنما جاءت بالياء لانكسار ما قبلها ، فإذا رجعوا إلى الفتح عادت إلى الواو كقولك : أروح الماء وتروحت بالمروحة ، ويقال أيضا : ريح وريحة كما قالوا : دار ودارة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى للعلماء من الكلام في هذا المقام ، وأفرد الريح لما في البحر أنها مختصة بالعذاب ، والجمع مختص بالرحمة ، ولذلك روي : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا . أصابت حرث أي زرع .

قوم ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فباءوا بغضب من الله تعالى ، وإنما وصفوا بذلك لما قيل : إن الإهلاك عن سخط أشد وأفظع أو لأن المراد الإشارة إلى عدم الفائدة في الدنيا والآخرة ، وهو إنما يكون في هلاك مال الكافر ، وأما غيره فقد يثاب على ما هلك له لصبره ، وقيل : المراد ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة وفي غير وقتها ( فأهلكته ) عن آخره ولم تدع له عينا ولا أثرا عقوبة لهم على معاصيهم ، وقيل : تأديبا من الله تعالى لهم في وضع الشيء في غير موضعه الذي هو حقه ، وهذا من التشبيه المركب الذي توجد فيه الزبدة من الخلاصة والمجموع ، ولا يلزم فيه أن يكون ما يلي الأداة هو المشبه به كقوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه وإلا لوجب أن يقال : كمثل حرث لأنه المشبه به المنفق ، وجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمهلك ريح ، والمهلك اسم مفعول هو الحرث ، والوجه عند كونه مركبا قلة الجدوى والضياع ، ويجوز أن يكون من التشبيه المفرق فيشبه إهلاك الله تعالى بإهلاك الريح ، والمنفق [ ص: 37 ] بالحرث ، وجعل الله تعالى أعمالهم هباء منثورا بما في الريح الباردة من جعله حطاما ، وقرئ - تنفقون - بالتاء .

وما ظلمهم الله الضمير إما للمنفقين أي ما ظلمهم بضياع نفقاتهم التي أنفقوها على غير الوجه اللائق المعتد به ، وإما للقوم المذكورين أي ما ظلم الله تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه لأنهم استحقوا ذلك ، وحينئذ يكون هذا النفي مع قوله تعالى : ولكن أنفسهم يظلمون ( 711 ) تأكيدا لما فهم من قبل إشعارا وتصريحا ، وقرئ ( ولكن ) بالتشديد على أن أنفسهم اسمها ، وجملة ( يظلمون ) خبرها والعائد محذوف ، والتقدير يظلمونها وليس مفعولا مقدما كما في قراءة التخفيف ، واسمها ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في الشعر كقوله :


وما كنت ممن يدخل العشق قلبه     ولكن من يبصر جفونك يعشق

وتعين حذفه فيه لمكان من الشرطية التي لا تدخل عليها النواسخ ، وتقديم ( أنفسهم ) على الفعل للفاصلة لا للحصر وإلا لا يتطابق الكلام لأن مقتضاه وما ظلمهم الله ولكن هم يظلمون أنفسهم لا أنهم يظلمون أنفسهم لا غيرهم وهو في الحصر لازم ، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار .

التالي السابق


الخدمات العلمية