صفحة جزء
ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم تنبيه على أن المخاطبين مخطئون في اتخاذهم بطانة ، وفي إعراب مثل هذا التركيب مذاهب للنحويين ، فقال الأزهري وابن كيسان وجماعة : إن ( ها ) للتنبيه ، و ( أنتم ) مبتدأ [ ص: 39 ] وجملة ( تحبونهم ) خبر ، و ( أولاء ) منادى أو منصوب على الاختصاص ، وضعف بأنه خلاف الظاهر ، والاختصاص لا يكون باسم الإشارة ، وقيل : ( أنتم ) مبتدأ و ( أولاء ) خبره ، والجملة بعد مستأنفة ، ويؤيد ذلك ما قاله الرضي من أنه ليس المراد من : ها أنا ذا أفعل ، وها أنت ذا تفعل ، تعريف نفسك أو المخاطب ، إذ لا فائدة فيه بل استغراب وقوع مضمون وقوع الفعل المذكور بعد من المتكلم أو المخاطب ، فالجملة بعد اسم الإشارة لازمة لبيان الحال المستغربة ولا محل لها إذ هي مستأنفة ، وقال البصريون : هي في محل النصب على الحال أي ها أنت ذا قائلا ، والحال ههنا لازمة لأن الفائدة معقودة بها وبها تتم ، والعامل فيها حرف التنبيه أو اسم الإشارة .

واعترضه الرضي بأنه لا معنى للحال إذ ليس المعنى أنت المشار إليه في حال فعلك ، ولا يخفى أن ما قاله البصريون هو الظاهر من كلام العرب لأنهم قالوا : ها أنت ذا قائما فصرحوا بالحالية وإن كان المعنى على الإخبار بالحال لأنه المقصود بالاستبعاد ، ومدلول الضمير واسم الإشارة متحد ، واعتبار معنى الإشارة لمجرد تصحيح العمل لا أن المعنى عليه ، وبه يندفع بحث الرضي ، على أنه قد أجيب عنه بغير ذلك ، وقال الزجاج : يجوز أن يكون ( أولاء ) بمعنى الذين خبرا عن المبتدأ ، و ( تحبونهم ) في موضع الصلة وليس بشيء ، وقيل : ( أنتم ) مبتدأ أول و ( أولاء ) مبتدأ ثان ، وتحبونهم خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول على حد أنت زيد تحبه ، وقيل : إن ( أولاء ) هو الخبر ، والجملة ما بعده خبر ثان ، وقيل : ( أولاء ) في محل نصب بفعل يفسره ما بعده ، والجملة خبر المبتدأ والإشارة للتحقير فاستعملت هنا للتوبيخ كأنه ازدرى بهم لظهور خطئهم في ذلك الاتخاذ .

والمراد بمحبة المؤمنين لهم المحبة العادية الناشئة من نحو الإحسان والصداقة ، ومثلها وإن كان غريبا يلام عليه إذا وقع من المؤمنين في حق أعداء الدين الذين يتربصون بهم ريب المنون ، لكن لا يصل إلى الكفر ، وإنما لم يصل إليه باعتبار آخر لا يكاد يقع من أولئك المخاطبين ، وقيل المراد (تحبونهم) لأنكم تريدون الإسلام لهم وتدعونهم إلى الجنة ، ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم الكفر والضلال وفي ذلك الهلاك ، ولا يخفى ما فيه .

وتؤمنون بالكتاب كله أي الجنس كله ، وجعل ذلك من قبيل أنت الرجل أي الكامل في الرجولية ، ويكون الكتاب حينئذ إشارة إلى القرآن تعسف ، والجملة حال من ضمير المفعول في ( لا يحبونكم ) واعترضه في البحر بأن المضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال ولهذا تأولوا - قمت وأصك عينيه - على حذف المبتدأ أي قمت وأنا أصك عينيه ، ومثل هذا التأويل وإن جاء هنا أي ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله ، إلا أن العطف على تحبونهم أولى لسلامته من الحذف ، وفيه أن الكلام في معرض التخطئة ولا كذلك الإيمان بالكتاب كله فإنه محض الصواب ، والحمل - على أنكم تؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون بشيء منه لأن إيمانهم كلا إيمان فلا يجامع المحبة - سديد كما قال العلامة الثاني في تقرير الحالية دون العطف ، وبهذا يندفع ما في البحر من الاعتذار ، والمعنى يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم .

وإذا لقوكم قالوا آمنا نفاقا وإذا خلوا أي خلا بعضهم ببعض عضوا عليكم أي لأجلكم الأنامل أي أطراف الأصابع من الغيظ أي لأجل الغضب والحنق لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ونصرة الله تعالى إياهم بحيث عجز أعداؤهم عن أن يجدوا سبيلا إلى التشفي واضطروا إلى مداراتهم ، وعض الأنامل عادة النادم الأسيف العاجز ، ولهذا أشير به إلى حال هؤلاء وليس المراد أن هناك عضا بالفعل [ ص: 40 ] ( قل ) يا محمد بلسانك ، وقيل : المراد حدث نفسك بإذلالهم وإعزاز الإسلام من غير أن يكون هناك قول ، وقيل : هو خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم على عداوتهم وحث لهم على خطابهم خطاب الخصماء ، فإنه لا أقطع للمحبة من جراحة اللسان ، فالمقصود على هذا من قوله تعالى : موتوا بغيظكم مجرد الخطاب بما يكرهونه ، والصحيح الذي اتفقت عليه كلمتهم أنه دعاء عليهم وكون ذلك مما فيه خفاء ، إذ لا يخاطب المدعو عليه بل الله تعالى ، ويسأل منه ابتلاؤه لا خفاء في خفائه وأنه غفلة عن قولهم : قاتلك الله تعالى ، وقولهم : دم بعز ، وبت قرير عين ، وغيره مما لا يحصى ، والمراد كما قيل : الدعاء بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يهلكوا به ، وهذا عند العلامة الثاني من كناية الكناية حيث عبر بدعاء موتهم بالغيظ عن ملزومه الذي هو دعاء ازدياد غيظهم إلى حين الهلاك وبه عن ملزومه الذي هو قوة الإسلام وعز اسمه ، وذلك لأن مجرد الموت بالغيظ أو ازدياده ليس مما يحسن أن يطلب ويدعى به .

وتعقب بأن المجاز مذكور ، وأما الكناية على الكناية فنادرة وقد صرح بها السبكي في قواعده الأصولية ونقل فيها خلافا ، ومع هذا الفرق بين الكناية بالوسائط والكناية على الكناية مما يحتاج إلى التأمل الصادق ، ولعله فرق اعتباري ، وأيضا ما ذكره من أن مجرد الموت بالغيظ إلخ مدفوع بأنه يمكن أن يكون المحسن لذلك ما فيه من الإشارة إلى ذمهم حيث إنهم قد استحقوا هذا الموت الفظيع والحال الشنيع .

إن الله عليم بذات الصدور (911) أي بما خفي فيها ، وهذا يحتمل أن يكون من تتمة المقول أي قل لهم : إن الله تعالى عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل إذا خلوتم فيجازي به ، وأن يكون خارجا عنه ، أي قل لهم ما تقدم ولا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم ، فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم ، والنهي عن التعجب حينئذ إما خارج مخرج العادة مجازا بناء على أن المخاطب عالم بمضمون هذه الجملة ، وإما باق على حقيقته إن كان المخاطب غير ذلك ممن يقف على هذا الخطاب ، فلا إشكال على التقديرين خلافا لمن وهم في ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية