صفحة جزء
وقوله تعالى: [ ص: 182 ] وجاءت سكرة الموت بالحق إلى آخره كلام وارد بعد تتميم العرض من إثبات ما أنكروه من البعث بأبين دليل وأوضحه دال على أن هذا المنكر أنتم لاقوه فخذوا حذركم، والتعبير بالماضي هنا وفيما بعد لتحقق الوقوع، و سكرة الموت شدته مستعارة من الحالة التي تعرض بين المرء وعقله بجامع أن كلا منهما يصيب العقل بما يصيب، وجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية ويجعل إثبات السكرة له تخييلا، وليس بذاك، والباء إما للتعدية كما في قولك: جاء الرسول بالخبر، والمعنى أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام، وقيل: حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته، وقيل:

بالحق الذي ينبغي أن يكون من الموت والجزاء فإن الإنسان خلق له، وإما للملابسة كما في قوله تعالى: تنبت بالدهن أي ملتبسة بالحق أي بحقيقة الأمر، وقيل: بالحكمة والغاية الجميلة، وقرئ (سكرة الحق بالموت) والمعنى أنها السكرة التي كتبت على الإنسان بموجب الحكمة وأنها لشدتها توجب زهوق الروح أو تستعقبه، وقيل: الباء بمعنى مع، وقيل: سكرة الحق سكرة الله تعالى على أن الحق من أسمائه عز وجل، والإضافة للتهويل لأن ما يجيء من العظيم عظيم. وقرأ ابن مسعود سكرات الموت جمعا، ويوافق ذلك ما أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة (أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات).

وجاء في حديث صححه الحاكم عن القاسم بن محمد عن عائشة أيضا قالت: (لقد رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت).

ذلك أي الحق ما كنت منه تحيد أي تميل وتعدل، فالإشارة إلى الحق والخطاب للفاجر لا للإنسان مطلقا والإشارة إلى الموت لأن الكلام في الكفرة، وإنما جيء بقوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان لإثبات العلم بجزئيات أحواله وتضمين شبه وعيد لهؤلاء إدماجا والتخلص منه إلى بيان أحواله في الآخرة ولأن قوله سبحانه وتعالى: لقد كنت في غفلة إلخ يناسب خطاب هؤلاء، وكذلك ما يعقبه على ما لا يخفى.

وأما حديث مقابليهم فقد أخذ فيه حيث قال عز وجل: وأزلفت الجنة الآيات، وقال بعض الأجلة: الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان الشامل للبر والفاجر والنفرة عن الموت شاملة لكل من أفراده طبعا.

وقال الطيبي: إن كان قوله تعالى: وجاءت سكرة الموت متصلا بقوله سبحانه: بل هم في لبس من خلق جديد وقوله تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح فالمناسب أن يكون المشار إليه الحق والخطاب للفاجر، وإن كان متصلا بقوله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان فالمناسب أن يكون المشار إليه الموت والخطاب للجنس وفيه البر والفاجر، والالتفات لا يفارق الوجهين، والثاني هو الوجه لقوله تعالى بعد ذلك: وجاءت كل نفس إلخ، وتفصيله بقوله تعالى: ألقيا في جهنم كل كفار عنيد . وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد وفيه ما يعلم مما قدمنا. وحكي في الكشاف عن بعضهم أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال: الخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فحكاه لصالح بن كيسان فقال: والله ما من عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب هو للكافر، ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال: أخالفهما جميعا [ ص: 183 ] هو للبر والفاجر، وكأن هذه المخالفة لنحو ما سمعت عن الطيبي. وفي بعض الآثار ما يؤيد القول بالعموم

أخرج ابن سعد عن عروة قال: لما مات الوليد بكت أم سلمة فقالت:


يا عين فابكي الوليد بن الوليد بن المغيرة كان الوليد بن الوليد أبو الوليد فتى العشيرة



فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تقولي هكذا يا أم سلمة ولكن قولي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد وأخرج أحمد وابن جرير عن عبد الله مولى الزبير بن العوام قال: لما حضر أبو بكر الوفاة تمثلت عائشة بهذا البيت:


أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى     إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر



فقال أبو بكر : ليس كذلك يا بنية ولكن قولي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد وفي رواية لابن المنذر وأبي عبيد أنها قالت:


وأبيض يستسقى الغمام بوجهه     ثمال اليتامى عصمة للأرامل



فقال رضي الله تعالى عنه: بل جاءت سكرة الموت إلخ إذ التمثل بالآية على تقدير العموم أوفق بالحال كما لا يخفى.

التالي السابق


الخدمات العلمية