صفحة جزء
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة خطاب للمنهزمين يوم أحد وهو كلام مستأنف لبيان ما هي الغاية القصوى من المداولة ، والنتيجة لما ذكر من العلل الثلاث الأول ، و (أم) منقطعة مقدرة ببل وهمزة الاستفهام الإنكاري ، وكونها متصلة ، وعديلها مقدر تكلف ، والإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادي الفوز بالمطلب الأسنى والمقام الأعلى ، والمعنى بل لا ينبغي منكم أن تظنوا أنكم تدخلون الجنة وتفوزون بنعيمها وما أعد الله تعالى لعباده فيها ، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم حال من ضمير ( تدخلوا ) مؤكدة للإنكار ، فإن رجاء الأجر من غير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عند العقول ، ولهذا قيل :


ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس



وورد عن شهر بن حوشب : طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة ، ونفي العلم باعتبار تعلقه التنجيزي كما مر في الإثبات على رأي .

ويجوز أن يكون الكلام كناية عن نفي تحقق ذلك لأن نفي العلم من لوازم نفي التحقق إذ التحقق ملزوم علم الله تعالى ، ونفي اللازم لازم نفي الملزوم ، وكثيرا ما يقال : ما علم الله تعالى في فلان خيرا ويراد ما فيه خير حتى يعلمه ، وهل يجري ذلك في نفي علمنا أم لا ، فيه تردد ، والذي قطع به صاحب الانتصاف الثاني ، وإيثار الكناية على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المراد ، وهو عدم تحقق الجهاد الذي هو سبب للفوز الأعظم منهم ، لما أن الكلام عليها كدعوى الشيء ببينة ، وفي ذلك رمز أيضا إلى ترك الرياء ، وأن المقصود علم الله تعالى لا الناس ، وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف الذي هو الجهاد للمبالغة في بيان انتفاء ذلك ، وعدم تحققه أصلا ، وكيف تحقق صفة بدون موصوف ، وفي اختيار (لما) على لم إشارة إلى أن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل بناء على ما يفهم من كلام سيبويه : إن ( لما ) تدل على توقع الفعل المنفي بها ، وقد ذكر الزجاج أنه إذا قيل : قد فعل فلان فجوابه : لما يفعل ، وإذا قيل : فعل ؟ فجوابه : لم يفعل ، فإذا قيل : لقد فعل ، فجوابه ما فعل ، كأنه قال : والله لقد فعل ، فقال المجيب : والله [ ص: 71 ] ما فعل ، وإذا قيل : هو يفعل يريد ما يستقبل ، فجوابه لا يفعل ، وإذا قيل : سيفعل فجوابه لن يفعل ، فقول أبي حيان : إن القول بأن (لما) تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحدا من النحويين ذكره غير متعد به ، نعم هذا التوقع هنا غير معتبر في تأكيد الإنكار ، وقرئ (ويعلم) بفتح الميم على أن أصله يعلمن بنون خفيفة فحذفت في الدرج ، وقد أجازوا حذفها إما بشرط ملاقاة ساكن بعدها أو مطلقا ، ومن ذلك قوله :


إذا قلت قدني قال بالله حلفة     لتغني عني ذا أنائك أجمعا



على رواية فتح اللام ، وقيل : إن فتح الميم لإتباع اللام ليبقى تفخيم اسم الله عز اسمه ، و (منكم) حال من الذين ، و (من) فيه للتبعيض ، فيؤذن بأن الجهاد فرض كفاية ويعلم الصابرين (142) نصب بإضمار إن ، وقيل : بواو الصرف ، والكلام على طرز ، لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، أي أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما ، وإيثار الصابرين على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على رءوس الآي ، وقيل : الفعل مجزوم بالعطف على المجزوم قبله وحرك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة والإتباع ، ويؤيد ذلك قراءة الحسن : (ويعلم الصابرين) بكسر الميم ، وقرئ (ويعلم) بالرفع على أن الواو للاستئناف أو للحال بتقدير وهو يعلم ، وصاحب الحال الموصول كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية