صفحة جزء
ولقد كنتم تمنون الموت خطاب لطائفة من المؤمنين لم يشهدوا غزوة بدر لعدم ظنهم الحرب حين خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليها ، فلما وقع ما وقع ندموا فكانوا يقولون : ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ، ونستشهد كما استشهدوا ، فلما أشهدهم الله تعالى أحدا لم يلبث إلا من شاء الله تعالى منهم .

فالمراد بالموت هنا الموت في سبيل الله تعالى وهي الشهادة ، ولا بأس بتمنيها ، ولا يرد أن في تمني ذلك غلبة الكفار ؛ لأن قصد المتمني الوصول إلى نيل كرامة الشهداء لا غير ، ولا يذهب إلى ذلك وهمه كما أن من يشرب دواء النصراني مثلا يقصد الشفاء لا نفعه ولا ترويج صناعته ، وقد وقع هذا التمني من عبد الله بن رواحة من كبار الصحابة ولم ينكر عليه ، ويجوز أن يراد بالموت الحرب فإنها من أسبابه ، وبه يشعر كلام الربيع وقتادة فحينئذ المتمنى الحرب لا الموت .

من قبل أن تلقوه متعلق بـ ( تمنون ) مبين لسبب إقدامهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوا وتعرفوا هوله ، وقرئ بضم اللام على حذف المضاف إليه ونية معناه ، وأن تلقوه حينئذ بدل من الموت بدل اشتمال أي كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل ذلك ، وقرئ تلاقوه من المفاعلة التي تكون بين اثنين وما لقيك فقد لقيته ، ويجوز أن يكون من باب سافرت والضمير عائد إلى الموت ، وقيل : إلى العدو المفهوم من الكلام وليس بشيء فقد رأيتموه أي ما تمنيتموه من الموت بمشاهدة أسبابه أو أسبابه ، والفاء فصيحة كأنه قيل : إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتموه ، وإيثار الرؤية على الملاقاة إما للإشارة إلى انهزامهم أو للمبالغة في مشاهدتهم له كتقييد ذلك بقوله سبحانه : وأنتم تنظرون (143) لأنه في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي رأيتموه معاينين له وهذا على حد قولك : رأيته وليس في عيني علة أي رأيته رؤية حقيقية لا خفاء فيها ولا شبهة ، وقيل : ( تنظرون ) بمعنى تتأملون وتتفكرون أي وأنتم تتأملون الحال كيف هي ، وقيل : معناه ( وأنتم تنظرون ) إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعلى كل حال فالمقصود من هذا الكلام عتاب المنهزمين [ ص: 72 ] على تمنيهم الشهادة وهم لم يثبتوا حتى يستشهدوا ، أو على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمني الشهادة نفسها لأن ذلك مما لا عتاب عليه كما وهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية