صفحة جزء
[ ص: 164 ] سورة الحديد

أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة ، وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجماع المفسرين ولم يسلم له ، فقد قال قوم : إنها مكية ، نعم الجمهور - كما قال ابن الفرس - على ذلك .

وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا ، ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه [الحديد : 7] فأسلم ، ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله [الحديد : 16] إلا أربع سنين ، وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله تعالى بها إلا أربع سنين ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل [الحديد : 16] الآية لكن سيأتي إن شاء الله تعالى آثار تدل على مدنية ما ذكر ولعلها لا تصلح للمعارضة .

ونزلت يوم الثلاثاء على ما أخرج الديلمي عن جابر مرفوعا لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء ، وفيه أيضا خبر رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بسند ضعيف ، وهي تسع وعشرون آية في العراقي ، وثمان وعشرون في غيره ، ووجه اتصالها - بالواقعة - أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به ، وكان أولها واقعا موقع العلة للأمر به فكأنه قيل : ( فسبح باسم ربك العظيم ) [الواقعة : 74 ، 96 ، الحاقة : 52] لأنه سبح له ما في السماوات والأرض ، وجاء في فضلها مع أخواتها ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ، وقال : إن فيهن آية أفضل من ألف آية » وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير

ثم قال : قال يحيى : نراها الآية التي في آخر الحشر . بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السماوات والأرض التسبيح على المشهور تنزيه الله تعالى اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه سبحانه من سبح في الأرض والماء إذا ذهب وأبعد فيهما ، وحيث أسندها هنا إلى غير العقلاء أيضا فإن ما في السماوات والأرض يعم جميع ما فيهما سواء كان مستقرا فيهما أو جزءا منهما بل المراد بما فيهما الموجودات فيكون أظهر في تناول السماوات والأرض ويتناول أيضا الموجودات المجردة عند القائل بها ، قال الجمهور : المراد به معنى عام مجازي شامل لما نطق به لسان المقال كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين ، ولسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل فرد من أفراد الموجودات يدل بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص ، وذهب بعض إلى أن التسبيح على حقيقته المعروفة في الجميع وهو مبني على ثبوت النفوس الناطقة والإدراك لسائر الحيوانات والجمادات على ما يليق بكل ، وقد صرح به جمع من الصوفية فتسبيح كل شيء عندهم قالي وإن تفاوت الأمر ، وقيل : معنى سبح حمل رائيه العاقل على قول سبحان الله تعالى ونبهه عليه وهو كما ترى ، ومن يجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا لا يحتاج إلى [ ص: 165 ] عموم المجاز ، وجوز الطبرسي كون ما للعالم فقط مثلها في قول أهل الحجاز كما حكى أبو زيد عند سماع الرعد - سبحان ما سبحت له ولا يخفى أن عمومها العالم وغيره أولى ، والظاهر أنها في الوجهين موصولة ، وقال بعضهم : إنها نكرة موصوفة وإن أصل الكلام ما في السماوات وما في الأرض ثم حذفت ما الثانية وأقيمت صفتها مقامها ، ولا يحسن أن تكون موصولة لأن الصلة لا تقوم مقام الموصول عند البصريين وتقوم الصفة مقام الموصوف عند الجميع ، والحمل على المتفق عليه أولى من الحمل على المختلف فيه وكون المذكورة موصولة والمحذوفة نكرة موصوفة مما لا وجه له انتهى .

وأنت تعلم أن حذف الموصول الصريح في مثل ذلك أكثر من أن يحصى وجيء باللام مع أن التسبيح متعد بنفسه كما في قوله تعالى : وتسبحوه [الفتح : 9] للتأكيد فهي مزيدة لذلك كما في نصحت له وشكرت له ، وقيل : للتعليل والفعل منزل منزلة اللازم أي فعل التسبيح وأوقعه لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه ، وفيه شيء لا يخفى ، وعبر بالماضي هنا وفي بعض الأخوات وبالمضارع في البعض الآخر إيذانا بتحقق التسبيح في جميع الأوقات ، وفي كل دلالة على أن من شأن ما أسند إليه التسبيح أن يسبحه وذلك هجيراه وديدنه ، أما دلالة المضارع عليه فللدلالة على الاستمرار إلى زمان الإخبار وكذلك فيما يأتي من الزمان لعموم المعنى المقتضي للتسبيح وصلوح اللفظ لذلك حيث جرد عن الدلالة على الزمان وأوثر على الاسم دلالة على تجدد تسبيح غب تسبيح ، وأما دلالة الماضي فللتجرد عن الزمان أيضا مع التحقيق الذي هو مقتضاه فيشمل الماضي من الزمان ومستقبله كذلك ، وقيل : الإيذان والدلالة على الاستمرار مستفادان من مجموعي الماضي والمضارع حيث دل الماضي على الاستمرار إلى زمان الإخبار والمضارع على الاستمرار في الحال والاستقبال فشملا معا جميع الأزمنة ، وقال الطيبي : افتتحت بعض السور بلفظ المصدر وبعض بالماضي وبعض بالمضارع وبعض بالأمر فاستوعب جميع جهات هذه الكلمة إعلاما بأن المكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد مسبحة مقدسة لذاته سبحانه وتعالى قولا وفعلا طوعا وكرها وإن من شيء إلا يسبح بحمده [الإسراء : 44] وهو العزيز القادر الغالب الذي لا ينازعه ولا يمانعه شيء الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشعر بعلة الحكم ، وكذا قوله تعالى : له ملك السماوات والأرض أي التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات ، وقوله سبحانه : يحيي ويميت أي يفعل الإحياء والإماتة استئناف مبين لبعض أحكام الملك وإذا جعل خبر مبتدأ محذوف أي هو يحيي ويميت كانت تلك الجملة كذلك وجعله حالا من ضمير له يوهم تقييد اختصاص الملك بهذه الحال ، وقوله تعالى : وهو على كل شيء من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة قدير مبالغ في القدرة تذييل وتكميل لما قبله.

التالي السابق


الخدمات العلمية