صفحة جزء
والذين آمنوا بالله ورسله قد بين كيفية إيمانهم في خاتمة سورة البقرة ، والموصول مبتدأ أول ، وقوله تعالى : أولئك مبتدأ ثان ، وهو إشارة إلى الموصول وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا ، وقوله سبحانه : [ ص: 183 ] هم مبتدأ ثالث ، وقوله عز وجل : الصديقون والشهداء خبر الثالث ، والجملة خبر الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو هم ضمير فصل وما بعده خبر الثاني ، وقوله تعالى : عند ربهم متعلق على ما قيل : بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عز وجل وفي حكمه وعلمه سبحانه هم الصديقون والشهداء .

والمراد أولئك في حكم الله تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل الله جل جلاله وسمي من قتل مجاهدا في سبيله شهيدا لأن الله سبحانه وملائكته عليهم السلام شهود له بالجنة ، وقيل : لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر ، وقيل : لأن ملائكة الرحمة تشهده ، وقيل : لأنه شهد ما أعد الله تعالى له من الكرامة ، وقيل : غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول على اختلاف التأويل ، وقوله تعالى لهم أجرهم ونورهم خبر ثان للموصول على أنه جملة من مبتدأ وخبر . أو ( لهم ) الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير ( لهم ) للموصول ، والضميران الأخيران للصديقين والشهداء ، والغرض بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال ، وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك أولا حيث قيل : أولئك هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور . وبين تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين تمام ما للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف ، فالإضعاف هو الذي امتاز به الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلا ويبقى على ظاهره والضمائر كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور الموعودان لهم ، وقال بعضهم : وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس [البقرة : 143] فعند ربهم متعلق بالشهداء ، والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة ، وجوز تعلقه بالشهداء أيضا على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة أو في حظيرة رحمته عز وجل أو نحو ذلك ، ويشهد لكون الشهداء معطوفا على الصديقين آثار كثيرة .

أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن مؤمني أمتي شهداء ، ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوما لقوم عنده : كلكم صديق وشهيد قيل له : ما تقول يا أبا هريرة ؟ قال : اقرؤوا والذين آمنوا بالله ورسله الآية ، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد قال : كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية ، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن عمرو بن ميمون ، وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال : «جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا ؟ قال : من الصديقين والشهداء » وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كما في ذلك يعتد به ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتد بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقا شهيدا ، [ ص: 184 ] ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه ما لكم إذا رأيتم الرجل يخترق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه ؟ قالوا : نخاف لسانه قال : ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء ، قال ابن الأثير : أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها ، وكذا بقوله عليه الصلاة والسلام : اللعانون لا يكونون شهداء بناء على أحد قولين فيه . وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة من خواص المؤمنين ، أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من فر بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقا فإذا مات قبضه الله شهيدا وتلا هذه الآية والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء ثم قال هذه فيهم ثم قال : الفرارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم في درجته في الجنة » ويجوز أن يراد من قوله : «هذه فيهم » أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولا أوليا ، ويقال : في قوله عليه الصلاة والسلام : «مع عيسى في درجته » المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية .

وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وطلحة والزبير وسعد وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى ، وقيل : الشهداء مبتدأ و عند ربهم خبره ، وقيل : الخبر لهم أجرهم والكلام عليهما قد تم عند قوله تعالى : الصديقون ، وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس والضحاك قالا : والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون هذه مفصولة سماهم صديقين ، ثم قال : والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم .

وروى جماعة عن مسروق ما يوافقه ، واختلفوا في المراد بالشهداء على هذا فقيل : الشهداء في سبيل الله تعالى .

وحكي ذلك عن مقاتل بن سليمان ، وقيل : الأنبياء عليهم السلام الذين يشهدون للأمم عليهم ، وحكي ذلك عن مسروق ومقاتل بن حيان واختاره الفراء والزجاج ، وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده خبر ، ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قال ، وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو ما تقدم ، ثم النور على جميع الأوجه على حقيقته وعن مجاهد وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أي بجميعها على اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم السلام جميعهم أولئك الموصوفون بتلك الصفة القبيحة أصحاب الجحيم بحيث لا يفارقونها أبدا [الحديد : 20 - 29]

التالي السابق


الخدمات العلمية