صفحة جزء
هذا (ومن باب الإشارة) في الآيات ولئن قتلتم في سبيل الله بسيف المحبة أو متم بالموت الاختباري لمغفرة أي ستر لوجودكم من الله ورحمة منه تعالى بتحليكم بصفاته عز وجل خير مما يجمعون أي أهل الكثرة .

فبما رحمة من الله أي باتصافك برحمة رحيمية أي رحمة تابعة لوجودك الموهوب الإلهي لا الوجود البشري لنت لهم ولو كنت فظا موصوفا بصفات النفس كالفظاظة والغلظ لانفضوا من حولك ولم يتحملوا مؤنة ذلك ، أو يقال : لو لم تغلب صفات الجمال فيك على نعوت الجلال لتفرقوا عنك ولما صبروا معك ، أو يقال : لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظ لتفرقوا هائمين على وجوههم غير مطيقين الوقوف معك لحظة ، أو يقال : لو كنت مدققا عليهم أحكام الحقائق لضاقت صدورهم ولم يتحملوا أثقال حقيقة الآداب في الطريق ، ولكن سامحتهم بالشريعة والرخص .

فاعف عنهم فيما يتعلق بك من تقصيرهم معك لعلو شأنك وكونك لا ترى في الوجود غير الله واستغفر لهم فيما يتعلق بحق الله تعالى لاعتذارهم أو استغفر لهم ما يجري في صدورهم من الخطرات التي لا تليق بالمعرفة وشاورهم في الأمر إذا كنت في مقام الفعل اختبارا لهم وامتحانا لمقامهم فإذا عزمت وذلك إذا كنت في مقام مشاهدة الربوبية والخروج من التفرقة إلى الجمع ، فتوكل على الله فإنه حسبك فيما يريد منك وتريد منه ، وذكر بعض المتصوفة أنه يمكن أن يفهم من الآية كون الخطاب مع الروح الإنساني ، وأنه لأن لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية لتستوفي حظها ، ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش ، ولولا ذلك لاضمحلت تلك القوى وتلاشت واختلت الحكمة وفقدت الكمالات التي خلق الإنسان لأجلها .

إن ينصركم الله فلا غالب لكم تحقيق لمعنى التوكل والتوحيد في الأفعال .

وقد ذكر بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن نصر الله تعالى لعباده متفاوت المراتب ، فنصره المريدين بتوفيقهم لقمع الشهوات ، ونصره المحبين بنعت المدانات ، ونصره العارفين بكشف المشاهدات ، وقد قيل : إنما يدرك نصر الله تعالى من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه في جميع أسبابه ، وما كان لنبي أن يغل لكمال قدسه وغاية أمانته فلم يخف حق الله تعالى عن عباده ، وأعطى علم الحق لأهل الحق ، ولم يضع أسراره إلا عند الأمناء من أمته .

أفمن اتبع رضوان الله أي النبي في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات ، لاتصافه بصفات [ ص: 131 ] الله تعالى كمن باء بسخط من الله وهو الغال المحتجب بصفات نفسه ومأواه جهنم وهي أسفل حضيض النفس المظلمة هم درجات عند الله أي كل من أهل الرضا والسخط متفاوتون في المراتب حسب الاستعدادات .

لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم إذ هو صلى الله تعالى عليه وسلم مرآة الحق يتجلى منه على المؤمنين ، ولو تجلى لهم صرفا لاحترقوا بأول سطوات عظمته ، ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام (من أنفسهم) كونه في لباس البشر ظاهرا بالصورة التي هم عليها ، وحمل المؤمنين على العارفين ، والرسول على الروح الإنساني المنور بنور الأسماء والصفات المبعوث لإصلاح القوى غير بعيد في مقام الإشارة أولما أصابتكم مصيبة في أثناء السير في الله تعالى وهي مصيبة الفترة بالنسبة إليكم قد أصبتم قوى النفس مثليها مرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الأفعال ، ومرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الصفات قلتم أنى أصابنا هذا ونحن في بيداء السير في الله تعالى عز وجل ، قل هو من عند أنفسكم لأنه بقي فيها بقية ما من صفاتها ، ولا ينافي قوله سبحانه : قل كل من عند الله لأن السبب الفاعل في الجميع هو الحق جل شأنه ، والسبب القابلي أنفسهم ، ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالاستعداد ، ويقتضيه ، فباعتبار الفاعل يكون من عند الله ، وباعتبار القابل يكون من عند أنفسهم ، وربما يقال ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله تعالى نظرا إلى التوحيد إذ لا غير ثمة .

ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله سواء قتلوا بالجهاد الأصغر وبذل الأنفس طلبا لرضا الله تعالى ، أو بالجهاد الأكبر وكسر النفس وقمع الهوى بالرياضة أمواتا بل أحياء عند ربهم بالحياة الحقيقية مقربين في حضرة القدس يرزقون من الأرزاق المعنوية وهي المعارف والحقائق ، وقد ورد في بعض الأخبار أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، ونقل ذلك بهذا اللفظ بعض الصوفية ، وجعل الطير الخضر إشارة إلى الأجرام السماوية ، والقناديل من ذهب إشارة إلى الكواكب ، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها ، وثمارها الأحوال والمعارف .

والمعنى أن أرواح الشهداء تتعلق بالنيرات من الأجرام السماوية بنزاهتها ، وترد مشارع العلوم وتكتسب هناك المعارف والأحوال ، ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي اعتقاده كما أشرنا إليه فيما سبق ، فإن كان ولا بد من التأويل فليجعل الطير إشارة إلى الصور التي تظهر بها الأرواح بناء على أنها جواهر مجردة ، وأطلق اسم الطير عليها إشارة إلى خفتها ووصولها بسرعة حيث أذن لها .

ونظير ذلك في الجملة قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث : " الأطفال هم دعاميص الجنة " والدعاميص جمع دعموص وهي دويبة تكون في مستنقع الماء كثيرة الحركة لا تكاد تستقر ، ومن المعلوم أن الأطفال ليسوا تلك الدويبة في الجنة ، لكنه أراد صلى الله عليه وآله وسلم الإخبار بأنهم سياحون في الجنة ، فعبر بذلك على سبيل التشبيه البليغ ، ووصف الطير بالخضر إشارة إلى حسنها وطراوتها ، ومنه خبر : " إن الدنيا حلوة خضرة " .

وقول عمر رضي الله تعالى عنه : إن الغزو حلو خضر .

ومن أمثالهم : النفس خضراء ، وقد يريدون بذلك أنها تميل لكل شيء وتشتهيه ، وأمر الظرفية في الخبر سهل ، وباقي ما فيه إما على ظاهره ، وإما مؤول ، وعلى الثاني يراد من الجنة الجنة المنوية وهي جنة الذات والصفات ، ومن أنهارها ما يحصل من التجليات ، ومن ثمارها ما يعقب تلك التجليات من الآثار ، ومن القناديل المعلقة في ظل العرش مقامات لا تكتنه معلقة في ظل عرش الوجود المطلق المحيط ، وكونها من ذهب إشارة إلى عظمتها ، وأنها لا تنال إلا بشق الأنفس . [ ص: 132 ] وحاصل المعنى على هذا أن أرواح الشهداء الذين جادوا بأنفسهم في مرضاة الله تعالى ، أو قتلهم الشوق إليه -عز شأنه- تتمثل صورا حسنة ناعمة طرية يستحسنها من رآها ، تطير بجناحي القبول والرضا في أنواع التجليات الإلهية ، وتكتسب بذلك أنواعا من اللذائذ المعنوية ، التي لا يقدر قدرها ، ويتجدد لها في مقدار كل ليلة مقام جليل ، لا ينال إلا بمثل أعمالهم ، وذلك هو النعيم المقيم ، والفوز العظيم ، وكأن من أول هذا الخبر وأمثاله قصد سد باب التناسخ ، ولعله بالمعنى الذي يقول به أهل الضلال غير لازم ، كما أشرنا إليه في آية البقرة فرحين بما آتاهم الله من فضله من الكرامة والنعمة والزلفى عنده ، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وهم الغزاة الذين لم يقتلوا بعد ، أو السالكون المجاهدون أنفسهم الذين لم يبلغوا درجتهم إلى ذلك الوقت ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون لفوزهم بالمأمن الأعظم ، والحبيب الأكرم يستبشرون بنعمة من الله عظيمة ، وهي جنة الصفات وفضل أي : زيادة عليها ، وهي جنة الذات ، ومع ذلك إن الله لا يضيع أجر إيمان المؤمنين الذي هو جنة الأفعال ، وثواب الأعمال ، الذين استجابوا لله والرسول بالفناء بالوحدة الذاتية ، والقيام بحق الاستقامة من بعد ما أصابهم القرح أي : كسر النفس للذين أحسنوا منهم وهم الثابتون في مقام المشاهدة وأتقنوا النظر إلى نفوسهم لهم أجر عظيم وراء أجر الإيمان ، الذين قال لهم الناس المنكرون قبل الوصول إلى المشاهدة إن الناس قد جمعوا لكم وتحشدوا للإنكار عليكم فاخشوهم ، واتركوا ما أنتم عليه فزادهم ذلك القول إيمانا ، أي يقينا وتوحيدا بنفي الغير ، وعدم المبالاة به ، وتوصلوا بنفي ما سوى الله تعالى إلى إثباته وقالوا حسبنا الله فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالاستقامة ، وقالوا : نعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل أي : رجعوا بالوجود الحقاني في جنة الصفات والذات لم يمسسهم سوء : لم يؤذهم أحد ؛ إذ لا أحد إلا الأحد ، واتبعوا رضوان الله في حال سلوكهم حتى فازوا بجنة الذات المشار إليها بقوله تعالى : والله ذو فضل عظيم كما أشرنا إليه إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه المحجوبين بأنفسهم فلا تخافوهم المنكرين وخافون ؛ إذ ليس في الوجود سواي إن كنتم مؤمنين أي موحدين توحيدا حقيقيا ، والله تعالى الموفق للصواب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل

التالي السابق


الخدمات العلمية