صفحة جزء
كل نفس ذائقة الموت قالت الملائكة : متنا .

ووقوع الموت للأنفس في هذه النشأة الحيوانية الجسمانية مما لا ريب فيه إلا أن الحكماء بنوا ذلك على أن هذه الحياة لا تحصل إلا بالرطوبة والحرارة الغريزيتين .

ثم إن الحرارة تؤثر في تحليل الرطوبة ، فإذا قلت الرطوبة ضعفت الحرارة ، ولا تزال هذه الحال مستمرة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفئ الحرارة الغريزية ويحصل الموت ، ومن هنا قالوا : إن الأرواح المجردة لا تموت ولا يتصور موتها إذ لا حرارة هناك ولا رطوبة ، وقد ناقشهم المسلمون في ذلك والمدار عندهم على الحرارة الكاف ورطوبة النون ، ولعلهم يفرقون بين موت وموت ، وقد استدل بالآية على أن المقتول ميت ، وعلى أن النفس باقية بعد البدن ؛ لأن الذائق لا بد أن يكون باقيا حال حصول المذوق فتدبر .

وقرأ اليزيدي : (ذائقة الموت) بالتنوين ونصب الموت على الأصل ، وقرأ الأعمش : (ذائقة الموت) بطرح التنوين مع النصب كما في قوله :


فألفيته غير مستعتب ولا ذاكرا لله إلا قليلا



وعلى القراءات الثلاث (كل نفس) مبتدأ وجاز ذلك وإن كان نكرة لما فيه من العموم ، و (ذائقة) الخبر ، وأنث على معنى (كل) لأن (كل نفس) نفوس ، ولو ذكر في غير القرآن على لفظ (كل) جاز .

وإنما توفون أجوركم أي تعطون أجزية أعمالكم وافية تامة يوم القيامة أي وقت قيامكم من القبور ، فالقيامة مصدر والوحدة لقيامهم دفعة واحدة ، وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم من خير أو شر تصل إليهم قبل ذلك اليوم ، ويؤيده ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري ، والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعا : " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران " ، وقيل : النكتة في ذلك أنه قد يقع الجزاء ببعض الأعمال في الدنيا ، ولعل من ينكر عذاب القبر تتعين عنده هذه النكتة .

فمن زحزح عن النار أي بعد يومئذ عن نار جهنم ، وأصل الزحزحة تكرير الزح ، وهو الجذب بعجلة ، وقد أريد هنا المعنى اللازم وأدخل الجنة فقد فاز أي سعد ونجا قاله ابن عباس ، وأصل الفوز الظفر بالبغية ، وبعض الناس قدر له هنا متعلقا أي فاز بالنجاة ونيل المراد ، ويحتمل أنه حذف للعموم أي بكل ما يريد ، وفي الخبر : " لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية " .

وأخرج أحمد ومسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " .

وذكر دخول الجنة بعد البعد عن النار لأنه لا يلزم من البعد عنها دخول الجنة كما هو ظاهر .

وما الحياة الدنيا أي لذاتها وشهواتها وزينتها إلا متاع الغرور (185) المتاع ما يتمتع به وينتفع [ ص: 147 ] به مما يباع ويشترى ، وقد شبهها سبحانه بذلك المتاع الذي يدلس به على المستام ويغير حتى يشتريه إشارة إلى غاية رداءتها عند من أمعن النظر فيها :


إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت     له عن عدو في ثياب صديق



وعن قتادة : هي متاع متروك أوشكت والله أن تضمحل عن أهلها ، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله تعالى إن استطعتم ولا قوة إلا بالله ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه : هي لين مسها ، قاتل سمها .

وقيل : الدنيا ظاهرها مظنة السرور ، وباطنها مطية الشرور .

وذكر بعضهم أن هذا التشبيه بالنسبة لمن آثرها على الآخرة ، وأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ .

وفي الخبر : " نعم المال الصالح للرجل الصالح .

والغرور مصدر أو جمع غار .

التالي السابق


الخدمات العلمية