صفحة جزء
وقد صرح جمع بأنها كذلك في قوله تعالى: ولسوف يعطيك ربك فترضى وقالوا: فائدتها تأكيد مضمون لجملة وبعدها مبتدأ محذوف؛ أي: ولأنت سوف يعطيك إلخ وأورد عليه أن التأكيد يقتضي الاعتناء والحذف ينافيه؛ ولذا قال ابن الحاجب: إن المبتدأ المؤكد باللام لا يحذف، وإن اللام مع المبتدأ كقد مع الفعل وإن مع الاسم، فكما لا يحذف الفعل والاسم ويبقيان بعد حذفهما كذلك لا يحذف المبتدأ وتبقى اللام وإنه يلزم التقدير والأصل عدمه، وأن اللام لتخلص المضارع الذي في حيزها للحال كتأكيد مضمون الجملة، وهو هنا مقرون بحرف التنفيس والتأخير فيلزم التنافي، ورد بأن المؤكد الجملة لا المبتدأ وحده حتى ينافي تأكيده حذفه، وكلام ابن الحاجب ليس حجة على الفارسي وأمثاله، وأن يحذف معها الاسم كثيرا كما ذكره النحاة وكذا قد يحذف بعدها الفعل كقوله:


أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد



مع أنه لو سلم فقد يفرق كما قال الطيبي بين أن وقد وهذه اللام؛ بأنهما يؤثران في المدخول عليه مع التأكيد بخلاف هذه اللام؛ فإن مقتضاها أن تؤكد مضمون الجملة لا غير وهو باق، وإن حذف المبتدأ فالقياس قياس مع الفارق، والنحويون يقدرون كثيرا في الكلام كما قدروا المبتدأ في نحو: قمت وأصك عينه. وهو لأجل الصناعة دون المعنى كما فيما نحن فيه واللام المؤكدة لا نسلم أنها لتخليص المضارع للحال أيضا بل هي لمطلق التأكيد فقط ويفهم معها الحال بالقرينة لأنه أنسب بالتأكيد. وعلى تسليم أنها لتخليصه للحال أيضا يجوز أن يقال: إنها تجردت للتأكيد هنا بقرينة ذكر سوف بعدها، والمراد تأكيد المؤخر؛ أعني الإعطاء لا تأكيد التأخير، فالمعنى أن الإعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة وعلى تسليم أنها للأمرين ولا تجرد يجوز أن يقال: نزل المستقبل أعني الإعطاء الذي يعقبه الرضا لتحقق وقوعه منزلة الواقع الحالي نظير ما قيل في قوله تعالى: وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة وقيل: يحسن هذا جدا فيما نحن فيه على القول بأن الإعطاء قد شرع فيه عند نزول الآية بناء على أحد أوجهها الآتية بعد أن شاء الله تعالى، وذهب بعضهم بأن اللام الأولى للقسم وكذا هذه اللام وبقسميتها جزم غير واحد، فالواو عليه للعطف فكلا الوعدين داخل في المقسم عليه، ويكون الله تعالى قد أقسم على أربعة أشياء؛ اثنان منفيان واثنان مثبتان وهو حسن في نظري، واعترض بأن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة، فلو كانت للقسم لقيل: «لسوف يعطيك ربك» ولا يخفى أن هذا أحد مذهبين للنحاة والآخر أنه يستثنى ما قرن بحرف تنفيس كما هنا، ففي المغني أنه تجب اللام وتمتنع النون فيه كقوله:

فوربي لسوف يجزى الذي     أسلف المرء سيئا أو جميلا



وكذا مع فصل معمول بين اللام والفعل نحو: ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ومع كون الفعل للحال نحو: «لا أقسم» وقد يمتنعان؛ وذلك مع الفعل المنفي نحو: تالله تفتأ وقد يجبان؛ وذلك فيما بقي نحو: وتالله لأكيدن أصنامكم وعليه لا يتجه الاعتراض مع أن الممنوع بدون النون في جواب القسم لا في المعطوف عليه كما هنا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وإنما ذكرت اللام تأكيدا للقسم وتذكيرا به، وبالجملة هذا الوجه أقل دغدغة من الوجه السابق ولا يحتاج فيه إلى توجيه جميع اللام مع سوف؛ إذ لم يقل أحد من [ ص: 160 ] علماء العربية بأن اللام القسمية مخلصة المضارع للحال كما لا يخفى على من تتبع كتبهم، وظاهر كلام الفاضل الكلنبوي أن كلا من اللامين موضوع للدلالة على الحال، ووجه الجمع على تقدير كونها في الآية قسمية بأنها محمولة على معناها الحقيقي، وسوف محمولة على تأكيد الحكم؛ ولذا قامت مقام إحدى النونين عند أبي علي الفارسي، وقد أطال رحمه الله تعالى الكلام فيما يتعلق بهذا المقام وأتى على غزارة فضله بما يستبعد صدوره من مثله. وقال عصام الدين: الأظهر أن جملة: ما ودعك حالية؛ أي: ما ودعك ربك وما قلاك، والحال أن الآخرة خير لك من الأولى وأنت تختارها عليها، ومن حاله كذلك لا يتركه ربه ففيه إرشاد للمؤمنين إلى ما هو ملاك قرب العبد إلى الرب عز وجل وتوبيخ للمشركين بما هم فيه من التزام أمر الدنيا والإعراض عن الآخرة، وحينئذ معنى قوله سبحانه: ولسوف يعطيك أنه سوف يعطيك الآخرة ولا يخفى حينئذ كمال اشتباك الجمل. انتهى.

وفيه أن دخول اللام عليها مع دخوله على الجملة بعدها وسبقهما بالقسم يبعد الحالية جدا، وأيضا المعنى ذكره على تقديرها غير ظاهر من الآية وكان الظاهر عليه عندك بدل لك كما لا يخفى عليك.

واختلف في قوله تعالى: ولسوف إلخ فقيل: هو عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم وفي أيام خلفائه عليه الصلاة والسلام وغيرهم من الملوك الإسلامية وفشو الدعوة والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولما ادخر جل وعلا له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو جل جلاله وعم نواله وقيل: عدة بما أعطاه سبحانه وتعالى في الدنيا من فتح مكة وغيره، والجمهور على أنه عدة أخروية، فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال: هي الشفاعة، وروي نحوه عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم.

أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين على جدهم وعليهم الصلاة والسلام: أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي؟ قال: إي والله؛ حدثني محمد بن الحنفية عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أشفع لأمتي حتى ينادي ربي: أرضيت يا محمد؟ فأقول: نعم يا رب رضيت». ثم أقبل علي فقال: إنكم تقولون يا معشر أهل العراق: إن أرجى آية في كتاب الله تعالى: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا قلت: إنا لنقول ذلك. قال: فكلنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله تعالى: ولسوف يعطيك ربك فترضى وقال: هي الشفاعة.

وقيل: هي أعم من الشفاعة وغيرها ويرشد إليه ما أخرجه العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحا وعليها كساء من جلد الإبل، فلما نظر إليها قال: «يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة غدا». فأنزل الله تعالى: ولسوف يعطيك ربك فترضى .

وقال أبو حيان: الأولى العموم لما في الدنيا والآخرة على اختلاف أنواعه، والخبر المذكور لو سلم صحته لا يأبى ذلك. نعم عطايا الآخرة أعظم من عطايا الدنيا بكثير، فقد روى الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس أنه قال: أعطاه الله تعالى في الجنة ألف قصر من لؤلؤ، ترابه المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم.

وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: في الآية من رضا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عنه أنه قال: رضاه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدخل أمته كلهم الجنة، وفي رواية الخطيب في تلخيص المتشابه من وجه آخر عنه: لا يرضى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأحد من أمته في النار، وهذا ما تقتضيه [ ص: 161 ] شفقته العظيمة عليه الصلاة والسلام على أمته؛ فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا عليهم رءوفا بهم مهتما بأمرهم.

وقد أخرج مسلم كما في الدر المنثور عن ابن عمر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام: فمن تبعني فإنه مني وقوله تعالى في عيسى: إن تعذبهم فإنهم عبادك الآية. فرفع عليه الصلاة والسلام يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي» وبكى فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.

وفي إعادة اسم الرب مع إضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى أيضا من اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية