صفحة جزء
ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون لا بد فيه من تقدير مضاف إليه، أي: لكل إنسان، أو لكل قوم، أو لكل مال أو تركة، وفيه على هذا وجوه ذكرها الشهاب - نور الله تعالى مرقده-:

الأول: أنه على التقدير الأول معناه: لكل إنسان موروث جعلنا موالي، أي: وراثا مما ترك، وهنا تم الكلام، فيكون (مما ترك) متعلقا بـ(موالي) أو بفعل مقدر و(موالي) مفعولا أولا لـ(جعل) بمعنى صير، و(لكل) هو المفعول الثاني له، قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجعل ببعض دون بعض، وفاعل (ترك) ضمير كل، ويكون (الوالدان) مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون.

والثاني: أن التقدير: لكل إنسان موروث جعلنا وراثا مما تركه ذلك الإنسان، ثم بين ذلك الإنسان بقوله سبحانه: (الوالدان) كأنه قيل: ومن هذا الإنسان الموروث؟ فقيل: (الوالدان والأقربون) وإعرابه كما قبله غير أن الفرق بينهما أن (الوالدان والأقربون) في الأول وارثون، وفي الثاني موروثون، وعليهما فالكلام جملتان.

والثالث: أن التقدير: ولكل إنسان وارث مما تركه (الوالدان والأقربون) جعلنا موالي، أي: موروثين، فالمولى الموروث، (والوالدان) مرفوع بـ(ترك) و(ما) بمعنى من، والجار والمجرور صفة (ما) أضيفت إليه (كل) والكلام جملة واحدة.

والرابع: أنه على التقدير الثاني معناه: ولكل قوم جعلناهم (موالي) نصيب مما تركه والداهم وأقربوهم، فـ(لكل) خبر (نصيب) المقدر مؤخرا، وجعلناهم صفة (قوم)، والعائد الضمير المحذوف الذي هو مفعول (جعل) و(موالي): إما مفعول ثان، أو حال و(مما ترك) صفة المبتدأ المحذوف الباقي صفته كصفة المضاف إليه، وحذف العائد منها.

ونظيره قولك: لكل من خلقه الله تعالى إنسانا من رزق الله تعالى، أي: لكل واحد خلقه الله تعالى إنسانا نصيب من رزق الله تعالى.

والخامس: أنه على التقدير الثالث معناه: لكل مال أو تركة (مما ترك الوالدان والأقربون) جعلنا موالي، أي وراثا يلونه ويحوزونه، ويكون (لكل) متعلقا بـ(جعل) و(مما ترك) صفة كل.

واعترض على الأول والثاني بأن فيهما تفكيك النظم الكريم، مع أن المولى يشبه أن يكون في الأصل اسم مكان لا صفة، فكيف تكون (من) صلة له، وأجيب عن هذا بأن ذلك لتضمنه معنى الفعل كما أشير إليه، على أن كون المولى ليس صفة مخالف لكلام الراغب؛ فإنه قال: إنه بمعنى الفاعل والمفعول، أي الموالي والموالى، لكن وزن مفعل في الصفة أنكره قوم، وقال ابن الحاجب في شرح المفصل: إنه نادر، فإما أن يجعل من النادر أو مما عبر عن الصفة فيه باسم المكان مجازا؛ لتمكنها وقرارها في موصوفها، ويمكن أن يجعل من باب المجلس السامي.

واعترض على الثالث بالبعد، وعلى الرابع بأن فيه حذف المبتدأ الموصوف بالجار والمجرور وإقامته مقامه وهو قليل، وبأن لكل قوم من الموالي جميع ما ترك الوالدان والأقربون لا نصيب، وإنما النصيب لكل فرد.

وأجيب عن الأول بأنه ثابت مع قلته كقوله تعالى: وما منا إلا له مقام معلوم ، ومنا دون ذلك .

[ ص: 22 ] وعن الثاني بأن ما يستحقه القوم بعض التركة؛ لتقدم التجهيز والدين والوصية إن كانا، وأما حمل (من) على البيان للمحذوف فبعيد جدا.

وتعقب الشهاب الجواب عن الأول بأن فيه خللا من وجهين:

أما أولا: فلأن ما ذكر لا شاهد له فيه لما قرره النحاة أن الصفة إذا كانت جملة أو ظرفا تقام مقام موصوفها بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بـ(من) أو (في)، وإلا لم تقم مقامه إلا في شعر، وما ذكر داخل فيه دون الآية.

وأما ثانيا: فلأنه ليس المراد بقيامها مقامه أن تكون مبتدأ حقيقة، بل المبتدأ محذوف، وهذا بيانه كما أشير إليه في التقرير، فلا وجه لاستبعاده، نعم ما ذكروه - وإن كان مشهورا - غير مسلم؛ فإن ابن مالك صرح بخلافه في التوضيح، وجوز حذف الموصوف في السعة بدون ذلك الشرط، فالحق أنه أغلبي لا كلي.

واعترض على الخامس بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بجملة عاملة في الموصوف، نحو: بكل رجل مررت تميمي، وفي جوازه نظر، ورد بأنه جائز، كما في قوله تعالى: قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض فـ(فاطر) صفة الاسم الجليل، وقد فصل بينهما بـ(أتخذ) العامل في (غير) فهذا أولى، والجواب بأن العامل لم يتخلل، بل المعمول تقدم، فجاء التخلل من ذلك، فلم يضعف، إذ حق المعمول التأخر عن عامله، وحينئذ يكون الموصوف مقرونا بصفته تكلف مستغنى عنه.

واختار جمع من المحققين هذا الخامس والذي قبله، وجعلوا الجملة مبتدأة مقررة لمضمون ما قبلها، واعترضوا على الوجه الأول بأن فيه خروج الأولاد؛ لأنهم لا يدخلون في الأقربين عرفا، كما لا يدخل الوالدان فيهم، وإذا أريد المعنى اللغوي شمل الوالدين، ورد بأن هذا مشترك الورود، على أنه قد أجيب عنه بأن ترك الأولاد لظهور حالهم من آية المواريث، كما ترك ذكر الأزواج لذلك، أو بأن ذكر الوالدين لشرفهم والاهتمام بشأنهم، فلا محذور من هذه الحيثية، تدبر .

والذين عقدت أيمانكم هم موالي الموالاة.

أخرج ابن جرير وغيره، عن قتادة قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية، فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال بقوله سبحانه: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض .

وروي ذلك من غير ما طريق، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وكذلك عن غيره، ومذهب أبي حنيفة- رضي الله تعالى عنه - أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح، وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وارث أصلا، وخبر النسخ المذكور لا يقوم حجة عليه إذ لا دلالة فيما ادعى ناسخا على عدم إرث الحليف، لا سيما وهو إنما يرثه عند عدم العصبات وأولي الأرحام، والأيمان هنا جمع يمين، بمعنى اليد اليمنى، وإضافة العقد إليها لوضعهم الأيدي في العقود، أو بمعنى القسم، وكون العقد هنا عقد النكاح خلاف الظاهر؛ إذ لم يعهد فيه إضافته إلى اليمين، وقرأ الكوفيون: (عقدت) بغير ألف، والباقون (عاقدت) بالألف، وقرئ بالتشديد أيضا، والمفعول في جميع القراءات محذوف، أي: عهودهم، والحذف تدريجي؛ ليكون العائد المحذوف منصوبا، كما هو الكثير المطرد، وفي الموصول أوجه من الإعراب:

الأول: أن يكون مبتدأ، وجملة قوله تعالى: فآتوهم نصيبهم خبره، وزيدت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط.

والثاني: أنه منصوب على الاشتغال، قيل: وينبغي أن يكون مختارا؛ لئلا يقع الطلب خبرا، لكنهم لم يختاروه؛ لأن مثله قلما يقع في غير الاختصاص، وهو غير مناسب هنا، ورد بأن: (زيدا ضربته) إن قدر العامل فيه [ ص: 23 ] مؤخرا أفاد الاختصاص، وإن قدر مقدما فلا يفيده، ولا خفاء أن الظاهر تقديره مقدما، فلا يلزم الاختصاص.

والثالث: أنه معطوف على (الوالدان) فإن أريد أنهم موروثون عاد الضمير من (فآتوهم) على (موالي) وإن أريد أنهم وارثون جاز عوده على (موالي) وعلى (الوالدين) وما عطف عليهم، قيل: ويضعفه شهرة الوقف على (الأقربون) دون (أيمانكم).

والرابع: أنه منصوب بالعطف على (موالي) وهو تكلف.

وفي رواية عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أخرجها البخاري، وأبو داود، والنسائي، وجماعة، أنه قال في الآية: «كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت ولكل جعلنا موالي نسخت، ثم قال: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له، وروي عن مجاهد مثله، وظاهر ذلك عدم جواز العطف؛ إذ من عطف أراد: (فآتوهم نصيبهم من الإرث).

إن الله كان على كل شيء شهيدا أي: لم يزل سبحانه عالما بجميع الأشياء، مطلعا عليها، جليها وخفيها، فيطلع على الإيتاء والمنع، ويجازي كلا من المانع والمؤتي حسب فعله، ففي الجملة وعد ووعيد.

التالي السابق


الخدمات العلمية