صفحة جزء
فبما نقضهم ميثاقهم في الكلام مقدر، والجار والمجرور متعلق بمقدر أيضا، والباء للسببية و(ما) مزيدة لتوكيدها، والإشارة إلى أنها سببية قوية، وقد يفيد ذلك الحصر بمعونة المقام كما يفيده التقديم على العامل إن التزم هنا، وجوز أن تكون (ما) نكرة تامة، ويكون (نقضهم) بدلا منهما أي: فخالفوا ونقضوا، ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم، وإن شئت أخرت العامل.

واختار أبو حيان - عليه الرحمة - تقدير (لعناهم) مؤخرا؛ لوروده مصرحا به كذلك في قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) وجوز غير واحد تعلق الجار بـ(حرمنا) الآتي، على أن قوله تعالى: (فبظلم) بدل من قوله سبحانه: (فبما نقضهم) وإليه ذهب الزجاج ، وتعقبه في البحر بأن فيه بعدا لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه، ولأن المعطوف على السبب سبب، فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم عن التحريم، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو سببا إلا بتأويل بعيد، وبيان ذلك أن قولهم على مريم بهتانا عظيما، وقولهم (إنا قتلنا المسيح) متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم، واستحسنه السفاقسي، ثم قال: وقد يتكلف لحله بأن دوام التحريم في كل زمن كابتدائه، وفيه بحث، وجعل العلامة الثاني الفاء في (فبظلم) على هذا التقدير تكرارا للفاء في (فبما نقضهم) عطفا على (أخذنا منهم) أو جزاء شرط مقدر، واستبعده أيضا من وجهين: لفظي ومعنوي، وبين الأول بطول الفصل وبكونه من إبدال الجار والمجرور مع حرف العطف أو الجزاء مع القطع بأن المعمول هو الجار والمجرور فقط، والثاني بدلالته على أن تحريم بعض الطيبات مسبب عن مثل هذه الجرائم العظيمة ومترتب عليه، ثم قال: ولو جعلت الفاء للعطف على (فبما نقضهم) كما في قولك: بزيد (وبحسنه أو فبحسنه أو ثم حسنه) افتتنت لم يحتج إلى جعله بدلا.

وجوز أبو البقاء وغيره التعلق بمحذوف دل عليه قوله تعالى: بل طبع الله عليها بكفرهم ورد بأن ذلك لا يصلح مفسرا ولا قرينة للمحذوف، أما الأول فلتعلقه بكلام آخر؛ لأنه رد وإنكار لقولهم (قلوبنا غلف) وأما الثاني فلأنه استطراد يتم الكلام دونه، وكونه قرينة لما هو عمدة في الكلام يوجب أن لا يتم دونه.

والحاصل أنه لا بد للقرينة من التعلق المعنوي بسابقتها حتى تصلح لذلك، ومنه يعلم أنه لا مورد للنظر بأن الطبعين [ ص: 9 ] متوافقان في العروض، أحدهما بالكفر، والآخر بالنقض، وقيل: هو متعلق بـ(لا يؤمنون) والفاء زائدة، وقيل: بما دل عليه، ولا يخفى رد ذلك.

وكفرهم بآيات الله أي: حججه الدالة على صدق أنبيائه - عليهم الصلاة والسلام – والقرآن، أو ما في كتابهم لتحريفه وإنكاره، وعدم العمل به وقتلهم الأنبياء بغير حق كزكريا ويحيى - عليهما السلام - وقولهم قلوبنا غلف جمع غلاف بمعنى الظرف، وأصله غلف بضمتين فخفف أي: أوعية للعلم، فنحن مستغنون بما فيها عن غيره، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما – وعطاء ، وقال الكلبي : يعنون إن قلوبنا بحيث لا يصل إليها شيء إلا وعته، ولو كان في حديثك شيء لوعته أيضا، ويجوز أن يكون جمع أغلف أي: هي مغشاة بأغشية خلقية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - فيكون كقوله تعالى: وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه .

بل طبع الله عليها بكفرهم كلام معترض بين المعطوفين جيء به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد زعمهم الفاسد، أي: ليس الأمر كما زعمتم من أنها أوعيه العلم؛ فإنها مطبوع عليها، محجوبة من العلم، لم يصل إليها شيء منه، كالبيت المقفل المختوم عليه، والباء للسببية، وجوز أن تكون للآلة، ويجوز أن يكون المعنى: ليس عدم وصول الحق إلى قلوبكم لكونها في أكنة وحجب خلقية - كما زعمتم - بل لأن الله تعالى ختم عليها بسبب كفركم الكسبي، وهذا الطبع بمعنى الخذلان والمنع من التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ عند الكثير، و(طبع) حقيقي عند البعض، وأيد بما أخرجه البزاز ، عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: « الطابع معلق بقائمة العرش، فإذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترئ على الله تعالى بعث الله تعالى الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئا » وأخرجه البيهقي أيضا في الشعب إلا أنه ضعفه.

فلا يؤمنون إلا قليلا نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي: إلا إيمانا قليلا، فهو كالتصديق بنبوة موسى - عليه السلام - وهو غير مفيد؛ لأن الكفر بالبعض كفر بالكل كما مر، أو صفة لزمان محذوف أي: زمانا قليلا، أو نصب على الاستثناء من ضمير (لا يؤمنون) أي: إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه، ورده السمين بأن الضمير عائد على المطبوع على قلوبهم، ومن طبع على قلبه بالكفر لا يقع منه إيمان، وأجيب بأن المراد بما مر الإسناد إلى الكل ما هو للبعض باعتبار الأكثر.

وقال عصام الملة : كما يجب استثناء القليل من عدم الإيمان المتفرع على الطبع على قلوبهم يجب استثناء قليل من القلوب من قلوبهم، فكأن المراد: بل طبع الله تعالى على أكثرها، فليفهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية