صفحة جزء
ورسلا نصب بمضمر أي: أرسلنا رسلا، والقرينة عليه قوله سبحانه: (أوحينا) السابق لاستلزامه الإرسال، وهو معطوف عليه داخل معه في حكم التشبيه، وقيل: القرينة قوله تعالى: قد قصصناهم عليك لا أنه منصوب بـ(قصصنا) بحذف مضاف، أي: قصصنا أخبار رسل، ولا أنه منصوب بنزع الخافض، أي: كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل - كما قيل - لخلوه عما في الوجه الأول من تحقيق المماثلة بين شأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - وبين شئون من يعترفون بنبوته من الأنبياء - عليهم السلام - في مطلق الإيحاء، ثم في إيتاء الكتاب، ثم في الإرسال، فإن قوله سبحانه: (إنا أوحينا إليك) منتظم لمعنى (آتيناك) و(أرسلناك) حتما، فكأنه قيل: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى فلان وفلان، وآتيناك مثل ما آتينا فلانا، وأرسلناك مثل ما أرسلنا الرسل الذين قصصناهم وغيرهم، ولا تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء والإرسال، فما للفكرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل، عليهم الصلاة والسلام؟! ومعنى قصهم عليه - عليه الصلاة والسلام - حكاية أخبارهم له، وتعريف شأنهم وأمورهم.

من قبل أي: من قبل هذه السورة، أو اليوم، قيل: قصهم عليه - صلى الله تعالى عليه وسلم - بمكة في سورة (الأنعام) وغيرها، وقال بعضهم: قصهم سبحانه عليه - عليه الصلاة والسلام - بالوحي في غير القرآن، ثم قصهم عليه بعد في القرآن ورسلا لم نقصصهم عليك أي: من قبل، فلا تنافي الآية ما ورد في الخبر من «أن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا»، وعن كعب «أنهم ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفا»؛ لأن نفي قصهم من قبل لا يستلزم نفي قصهم مطلقا، فإن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام، فيمكن أن يكون قصهم عليه - صلى الله تعالى عليه وسلم - بعد فعلمهم، فأخبر بما أخبر على أن القبيلة تفهم من الكلام ولو لم تكن في القابل؛ لأن (لم) في المشهور إذا دخلت على المضارع تقلب معناه للمضي، على أن القص ذكر الأخبار، ولا يلزم من نفي ذكر أخبارهم له صلى الله تعالى عليه وسلم نفي ذكر عدهم مجردا من ذكر الأخبار والقصص، فيمكن أن يقال: لم يذكر سبحانه له صلى الله تعالى عليه وسلم أخبارهم أصلا، لكن ذكر جل شأنه له عليه الصلاة والسلام أنهم كذا رجلا، فاندفع ما توهمه بعض المعاصرين من أن الآية نص في عدم علمه - وحاشاه - عليه الصلاة والسلام [ ص: 18 ] عدة المرسلين - عليهم الصلاة والسلام - فيأخذ بها ويرد الحديث، وكأن الذي أوقعه في الوهم كلام بعض المحققين، والأولى أن لا يقتصر على عدد الآية، فأخطأ في الفهم، ومات في ربقة التقليد، نسأل الله تعالى العافية.

وكلم الله موسى برفع الجلالة، ونصب موسى ، وعن إبراهيم، ويحيى بن وثاب أنهما قرآ على القلب.

تكليما مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز - على ما ذكره غير واحد - ونظر فيه الشهاب بأنه مؤكد للفعل فيرفع المجاز عنه، وأما رفعه المجاز عن الإسناد بأن يكون المكلم رسله من الملائكة، كما يقال: قال الخليفة كذا إذا قاله وزيره فلا، مع أنه أكد الفعل، والمراد به معنى مجازي، كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان :


بكى الخز من روح وأنكر جلده وعجت عجيجا من جذام المطارف



فأكدت عجت مع أنه مجاز؛ لأن الثياب لا تعج، وما نقل عن الفراء من أن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام لا يفي بالمقصود؛ إذ نهاية ما فيه رفع المجاز عن الفعل في هذه المادة، ولا تعرض له لرفع المجاز عن الإسناد، فللخصم أن يقول: التكليم حقيقة، إلا أن إسناده إلى الله تعالى مجاز، ولا تقوم الآية حجة عليه إلا بنفي ذلك الاحتمال، نعم، إنها ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة.

والجملة إما معطوفة على قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك) عطف القصة على القصة، لا على (آتينا) وما عطف عليه، وإما حال بتقدير قد، كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات، والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي وأعلاها، وقد خص به من بين الأنبياء الذين اعترفتم بنبوتهم موسى - عليه السلام - ولم يقدح ذلك فيهم أصلا، فكيف يتوهم أن نزول التوراة عليه جملة قادح في نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور حكمة ذلك؟!

هذا، وقد تقدم لك كيفية سماع موسى - عليه السلام - لكلام الله - عز وجل -وقد وقع التكليم أيضا لنبينا محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - في الإسراء مع زيادة رفعة، بل ما من معجزة لنبي من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إلا لنبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - مثلها مع زيادة شرف له، شرفه الله تعالى، بل ما من ذرة نور شعت في العالمين إلا تصدقت بها شمس ذاته صلى الله تعالى عليه وسلم، ولله سبحانه در البوصيري حيث يقول:


وكل آي أتى الرسل الكرام بها     فإنما اتصلت من نوره بهم



فصلى الله تعالى عليه وسلم تسليما كثيرا.

التالي السابق


الخدمات العلمية