صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا شروع في بيان الشرائع المتعلقة بدينهم بعد بيان ما يتعلق بدنياهم، ووجه التقديم والتأخير ظاهر إذا قمتم إلى الصلاة أي: إذا أردتم القيام إليها والاشتغال بها، فعبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها مجازا، وفائدته الإيجاز والتنبيه [ ص: 69 ] على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وقيل: يجوز أن يكون المراد إذا قصدتم الصلاة فعبر عن أحد لازمي الشيء بلازمه الآخر، وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة، وإن لم يكن محدثا؛ نظرا إلى عموم ( الذين آمنوا ) من غير اختصاص بالمحدثين، وإن لم يكن في الكلام دلالة على تكرار الفعل، وإنما ذلك خارج عن الصحيح، لكن الإجماع على خلاف ذلك.

وقد أخرج مسلم وغيره: « أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح، فقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: عمدا فعلته يا عمر » يعني بيانا للجواز، فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة، والمعنى: ( إذا قمتم إلى الصلاة ) محدثين بقرينة دلالة الحال؛ ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم، فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا.

وقوله تعالى: فلم تجدوا ماء صريح في البدلية، وبعض المتأخرين: إن في الكلام شرطا أي: ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) إلخ، إن كنتم محدثين؛ لأنه يلائمه كل الملائمة عطف ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) عليه، وقيل: الأمر للندب، ويعلم الوجوب للمحدث من السنة، واستبعد لإجماعهم على أن وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل، وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض ووجوب بالنسبة إلى آخرين، وقيل: هو للوجوب، وكان الوضوء واجبا على كل قائم أول الأمر ثم نسخ.

فقد أخرج أحمد ، وأبو داود ، وابن جبير ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي ، والحاكم ، عن عبد الله بن حنظلة الغسيل « أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أم غير طاهر، فلما شق ذلك عليه - صلى الله تعالى عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث » ولا يعارض ذلك خبر أن المائدة آخر القرآن نزولا إلخ؛ لأنه ليس في القوة مثله، حتى قال العراقي: لم أجده مرفوعا، نعم، الاستدلال على الوجوب على كل الأمة أولا، ثم نسخ الوجوب عنهم آخرا بما يدل على الوجوب عليه عليه الصلاة والسلام أولا ونسخه عنه آخرا لا يخلو عن شيء، كما لا يخفى.

وأخرج مالك والشافعي وغيرهما، عن زيد بن أسلم أن تفسير الآية ( إذا قمتم ) من المضاجع، يعني النوم ( إلى الصلاة ) والأمر عليه ظاهر، ويحكى عن داود: أنه أوجب الوضوء لكل صلاة؛ لأن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - والخلفاء من بعده كانوا يتوضؤون كذلك، وكان علي - كرم الله تعالى وجهه - يتوضأ كذلك، ويقرأ هذه الآية، وفيه أن حديث عمر - رضي الله تعالى عنه - يأبى استمرار النبي عليه الصلاة والسلام على ما ذكر، والخبر عن علي - كرم الله تعالى وجهه - لم يثبت، وفعل الخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب، وقد ورد: « من توضأ على طهر كتب الله تعالى له عشر حسنات ».

فاغسلوا وجوهكم أي: أسيلوا عليها الماء، وحد الإسالة أن يتقاطر الماء ولو قطرة عندهما، وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى – لا يشترط التقاطر، وأما الدلك فليس من حقيقة الغسل، خلافا لمالك، فلا يتوقف حقيقته عليه، قيل: ومرجعهم فيه قول العرب: غسل المطر الأرض، وليس في ذلك إلا الإسالة، ومنع بأن وقعه من علو خصوصا مع الشدة والتكرر دلك أي دلك! وهم لا يقولونه إلا إذا نظفت الأرض، وهو إنما يكون بدلك، وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل، وهو تحسين هيئة الأعضاء الظاهرة للقيام بين يدي الرب سبحانه وتعالى الذي لا يتم بالنسبة إلى سائر [ ص: 70 ] المتوضئين إلا بالدلك.

وحكي عنه أن الدلك ليس واجبا لذاته، وإنما هو واجب لتحقق وصول الماء، فلو تحقق لم يجب، كما قاله ابن الحاج في شرح المنية، ومن الغريب أنه قال باشتراط الدلك في الغسل، ولم يشترط السيلان فيما لو أمر المتوضئ الثلج على العضو فإنه قال: يكفي ذلك، وإن لم يذب الثلج ويسيل، ووافقه عليه الأوزاعي، مع أن ذلك لا يسمى غسلا أصلا، ويبعد قيامه مقامه.

وحد الوجه عندنا طولا من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل اللحيين، وعرضا ما بين شحمتي الأذن؛ لأن المواجهة تقع بهذه الحالة، وهو مشتق منها، واشتقاق الثلاثي من المزيد - إذا كان المزيد أشهر في المعنى الذي يشتركان فيه – شائع.

وقال العلامة أكمل الدين: إن ما ذكروا من منع اشتقاق الثلاثي من المزيد إنما هو في الاشتقاق الصغير، وأما في الاشتقاق الكبير - وهو أن يكون بين كلمتين تناسب في اللفظ والمعنى - فهو جائز، ويعطي ظاهر التحديد وجوب إدخال البياض المعترض بين العذار والأذن بعد نباته، وهو قولهما، خلافا لأبي يوسف، ويعطي أيضا وجوب الإسالة على شعر اللحية.

وقد اختلفت الروايات فيه عن الإمام الأعظم - رضي الله تعالى عنه – وغيره، فعنه: يجب مسح ربعها، وعنه: مسح ما يلاقي البشرة، وعنه: لا يتعلق به شيء، وهو رواية عن أبي يوسف ، وعن أبي يوسف : يجب استيعابها، وعن محمد أنه يجب غسل الكل، قيل: -وهو الأصح - وفي الفتاوى الظهيرية وعليه الفتوى؛ لأنه قام مقام البشرة فتحول الفرض إليه كالحاجب.

وقال في البدائع، عن ابن شجاع : إنهم رجعوا عما سوى هذا، وكل هذا في الكثة، أما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها، ولو أمر الماء على شعر الذقن ثم حلقه لا يجب غسل الذقن.

وفي البقال: لو قص الشارب لا يجب تخليله، وإن طال وجب تخليله، وإيصال الماء إلى الشفتين، وكأن وجهه أن قطعه مسنون فلا يعتبر قيامه في سقوط ما تحته، بخلاف اللحية فإن إعفاءها هو المسنون، وعد شيخ الإسلام المرغيناني في التجنيس إيصال الماء إلى منابت شعر الحاجبين والشارب من الآداب من غير تفصيل.

وأما الشفة فقيل: تبع للفم، وقال أبو جعفر: ما انكتم عند انضمامه تبع له، وما ظهر فللوجه، وروي هذا التحديد عن ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والزهري - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -وغيرهم.

وقيل: الوجه كل ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، ما ظهر من ذلك لعين الناظر، وما بطن كداخل الأنف والفم، وكذا ما أقبل من الأذنين.

وروي عن أنس بن مالك ، وأم سلمة ، وعمار ، ومجاهد ، وابن جبير ، وجماعة فأوجبوا غسل ذلك كله، ولم أر لهم نصا في باطن العين، والظاهر عدم وجوب غسله لمزيد الحرج وتوقع الضرر، ولهذا صرح البعض بعدم سنية الغسل أيضا، بل قال بعضهم: يكره، نعم، يخطر في الذهن رواية عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه كان يوجب غسل باطن العين في الغسل ويفعله، وأنه كان سببا في كف بصره رضي الله تعالى عنه.

وأيديكم إلى المرافق جمع مرفق بكسر ففتح أفصح من عكسه، وهو موصل الذراع في العضد، ولعل وجه تسميته بذلك أنه يرتفق به، أي: يتكأ عليه من اليد، وجمهور الفقهاء على دخولها.

وحكي عن الشافعي - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها، ولذلك قيل ( إلى ) بمعنى مع، كما في قوله تعالى: ويزدكم قوة إلى قوتكم و من أنصاري إلى الله وقيل: هي إنما تفيد معنى الغاية.

[ ص: 71 ] ومن الأصول المقررة أن ما بعد الغاية إن دخل في المسمى لولا ذكرها دخل وإلا فلا، ولا شك أن المرافق داخلة في المسمى فتدخل، وما أورد على هذا الأصل من أنه لو حلف لا يكلم فلانا إلى غد لا يدخل مع أنه يدخل لو تركت الغاية غير قادح فيه؛ لأن الكلام هنا في مقتضى اللغة، والإيمان تبنى على العرف، وجاز أن يخالف العرف اللغة.

وذكر بعض المحققين أن ( إلى ) جاءت وما بعدها داخل في الحكم فيما قبلها، وجاءت وما بعدها غير داخل، فمنهم من حكم بالاشتراك، ومنهم من حكم بظهور الدخول، ومنهم من حكم بظهور انتفاء الدخول، وعليه النحويون، ودخول المرافق ثابت بالسنة، فقد صح عنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه أدار الماء عليها.

ونقل أصحابنا حكاية عدم دخولها عن زفر، واستدل بتعارض الأشباه، وبأن في الدخول في المسمى اشتباها أيضا فلا تدخل بالشك، وحديث الإدارة لا يستلزم الافتراض؛ لجواز كونه على وجه السنة كالزيادة في مسح الرأس إلى أن يستوعبه.

وأجيب بأنه لا تعارض مع غلبة الاستعمال في الأصل المقرر، وأيضا على ما قال يثبت الإجمال في دخولها، فيكون اقتصاره - صلى الله تعالى عليه وسلم - على المرفق وقع بيانا للمراد من اليد، فيتعين دخول ما أدخله ( واغسل يدك للأكل ) من إطلاق اسم الكل على البعض اعتمادا على القرينة.

وقال العلامة ابن حجر: دل على دخولها الاتباع والإجماع، بل والآية أيضا بجعل ( إلى ) غاية للترك المقدر، بناء على أن اليد حقيقة إلى المنكب كما هو الأشهر لغة، وكأنه عنى بالإجماع إجماع أهل الصدر الأول، وإلا فلا شك في وجود المخالف بعد، وعدوا داود ، وكذا الإمام مالكا - رضي الله تعالى عنه - من ذلك، ولي في عد الأخير تردد، فقد نقل ابن هبيرة إجماع الأئمة الأربعة على فرضية غسل اليدين مع المرفقين.

قيل: ويترتب على هذا الخلاف أن فاقد اليد من المرفق يجب عليه إمرار الماء على طرف العظم عند القائل بالدخول، ولا يجب عند المخالف؛ لأن محل التكليف لم يبق أصلا، كما لو فقد اليد فما فوق المرفق، نعم، يندب له غسل ما بقي من العضد؛ محافظة على التحجيل.

هذا، واستيعاب غسل المأمور به من الأيدي فرض كما هو الظاهر من الآية، فلو لزق بأصل ظفره طين يابس أو نحوه أو بقي قدر رأس إبرة من موضع الغسل لم يجز، ولا يجب نزع الخاتم وتحريكه إذا كان واسعا، والمختار في الضيق الوجوب، وفي الجامع الأصغر: إن كان وافر الأظفار وفيها درن أو طين أو عجين جاز في القروي والمدني على الصحيح المفتى به، كما قال الدبوسي وقيل: يجب إيصال الماء إلى ما تحتها إلا الدرن؛ لتولده منه.

وقال الصفار : يجب الإيصال مطلقا إن طال الظفر، واستحسنه ابن الهمام؛ لأن الغسل وإن كان مقصورا على الظواهر لكن إذا طال الظفر يصير بمنزلة عروض الحائل كقطرة شمعة، وفي النوازل: يجب في المصري لا القروي؛ لأن دسومة أظفار المصري مانعة من وصول الماء بخلاف القروي، ولو طالت أظافره حتى خرجت عن رؤوس الأصابع وجب غسلها قولا واحدا، ولو خلق له يدان على المنكب فالتامة هي الأصلية يجب غسلها، والأخرى زائدة، فما حازى منها محل الفرض وجب غسله، وما لا فلا، ومن الغريب أن بعضا من الناس أوجب البداية في غسل الأيدي من المرافق، فلو غسل من رءوس الأصابع لم يصح وضوؤه.

وقد حكى ذلك الطبرسي في مجمع البيان، والظاهر أن هذا البعض من الشيعة، ولا أجد لهم في ذلك متمسكا.

وامسحوا برءوسكم قيل: الباء زائدة لتعدي الفعل بنفسه، وقيل للتبعيض، وقد نقل ابن مالك ، عن أبي علي في التذكرة أنها تجيء لذلك، وأنشد:

[ ص: 72 ]

شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج



وقيل: إن العرف نقلها إلى التبعيض في المتعدي.

والمفروض في المسح عندنا مقدار الناصية، وهو ربع الرأس من أي جانب كان فوق الأذنين، لما روى مسلم ، عن المغيرة : « أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - توضأ فمسح بناصيته » والكتاب مجمل في حق الكمية، فالتحق بيانا له، والشافعي - رضي الله تعالى عنه - يمنع ذلك، ويقول: هو مطلق لا مجمل فإنه لم يقصد إلى كمية مخصوصة أجمل فيها، بل إلى الإطلاق، فيسقط عنده بأدنى ما يطلق عليه مسح الرأس، على أن في حديث المغيرة روايتان: على ناصيته، وبناصيته، والأولى لا تقتضي استيعاب الناصية؛ لجواز كون ذكرها لدفع توهم أنه مسح على الفود أو القذال، فلا يدل على مطلوبكم، ولو دل مثل هذا على الاستيعاب لدل مسح على الخفين عليه أيضا، ولا قائل به هناك عندنا وعندكم، وإذا رجعنا إلى الثانية كان محل النزاع في الباء كالآية، ويعود التبعيض، ومن هنا قال بعضهم: الأولى أن يستدل برواية أبي داود عن أنس - رضي الله تعالى عنه - « رأيت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم – يتوضأ، وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه » وسكت عليه أبو داود ، فهو حجة، وظاهره استيعاب تمام المقدم، وتمام مقدم الرأس هو الربع المسمى بالناصية، ومثله ما رواه البيهقي ، عن عطاء « أنه صلى الله تعالى عليه وسلم توضأ فحسر العمامة، ومسح مقدم رأسه، أو قال: ناصيته » فإنه حجة، وإن كان مرسلا عندنا، وكيف وقد اعتضد بالمتصل؟ بقي شيء وهو أن ثبوت الفعل كذلك لا يستلزم نفي جواز الأقل، فلا بد من ضم الملازمة القائلة لو جاز الأقل لفعله مرة تعليما للجواز، وقد يمنع بأن الجواز إذا كان مستفادا من غير الفعل لم يحتج إليه فيه، وهنا كذلك نظرا إلى الآية، فإن الباء فيها للتبعيض، وهو يفيد جواز الأقل، فيرجع البحث إلى دلالة الآية، فيقال حينئذ: إن الباء للإلصاق، وهو المعنى المجمع عليه لها بخلاف التبعيض؛ فإن الكثير من محققي أئمة العربية ينفون كونه معنى مستقلا للباء بخلاف ما إذا كان في ضمن الإلصاق، كما فيما نحن فيه، فإن إلصاق الآلة بالرأس الذي هو المطلوب لا يستوعب الرأس، فإذا ألصق فلم يستوعب خرج عن العهدة بذلك البعض، وحينئذ فتعين الربع؛ لأن اليد إنما تستوعب قدره غالبا، فلزم.

وفي بعض الروايات: إن المفروض مقدار ثلاث أصابع، وصححها بعض المشايخ؛ نظرا إلى أن الواجب إلصاق اليد، والأصابع أصلها، ولذا يلزم كمال دية اليد بقطعها، والثلاث أكثرها، وللأكثر حكم الكل، ولا يخفى ما فيه، وإن قيل: إنه ظاهر الرواية.

وذهب الإمام مالك - رضي الله تعالى عنه - والإمام أحمد في أظهر الروايات عنه إلى أنه يجب استيعاب الرأس بالمسح، والإمامية إلى ما ذهب إليه الشافعي - رضي الله تعالى عنه - ولو أصاب المطر قدر الفرض سقط عندنا، ولا يشترط إصابته باليد؛ لأن الآلة لم تقصد إلا للإيصال إلى المحل، فحيث وصل استغني عن استعمالها، ولو مسح ببل في يده لم يأخذه من عضو آخر جاز، وإن أخذه لا يجوز، ولو مسح بإصبع واحدة مدها قدر الفرض وكذا بإصبعين على ما قيل لا يجوز خلافا لزفر، وعللوه بأن البلة صارت مستعملة، وهو على إشكاله بأن الماء لا يصير مستعملا قبل الانفصال ليستلزم عدم جواز مد الثلاث على القول بأنه لا يجزئ أقل من الربع، والمشهور في ذلك الجواز.

واختار شمس الأئمة أن المنع في مد الإصبع والاثنتين غير معلل باستعمال البلة بدليل أنه لو مسح بإصبعين في التيمم لا يجوز مع عدم شيء يصير مستعملا، خصوصا إذا تيمم على الحجر الصلد، بل الوجه عنده أنا مأمورون بالمسح باليد، والإصبعان منها لا تسميان يدا بخلاف الثلاث؛ لأنها أكثر ما هو الأصل فيها، وهو حسن - كما قال ابن الهمام - [ ص: 73 ] لكنه يقتضي تعين الإصابة باليد، وهو منتف بمسألة المطر، وقد يدفع بأن المراد تعينها أو ما يقوم مقامها من الآلات عند قصد الإسقاط بالفعل اختيارا، غير أن لازمه كون تلك الآلة التي هي غير اليد مثلا قدر ثلاث أصابع من اليد حتى لو كان عودا مثلا لا يبلغ ذلك القدر، قلنا: بعدم جواز مده.

وقد يقال: عدم الجواز بالإصبع بناء على أن البلة تتلاشى وتفرغ قبل بلوغ قدر الفرض بخلاف الإصبعين فإن الماء يتحمل بين الإصبعين المضمومتين فضل زيادة تحتمل الامتداد إلى قدر الفرض، وهذا مشاهد أو مظنون، فوجب إثبات الحكم باعتباره، فعلى اعتبار صحة الاكتفاء بقدر ثلاث أصابع يجوز مد الإصبعين؛ لأن ما بينهما من الماء يمتد قدر إصبع ثالثة، وعلى اعتبار توقف الإجزاء على الربع لا يجوز لأن ما بينهما لا يغلب على الظن إيعابه الربع، إلا أن هذا يعكر عليه عدم جواز التيمم بإصبعين، فلو أدخل رأسه إناء ماء ناويا للمسح جاز، والماء طهور عند أبي يوسف؛ لأنه لا يعطى له حكم الاستعمال إلا بعد الانفصال، والذي لاقى الرأس من أجزائه لصق به فطهره، وغيره لم يلاقه فلا يستعمل.

واتفقت الأئمة على أن المسح على العمامة غير مجزئ إلا أحمد، فإنه أجاز ذلك بشرط أن يكون من العمامة شيء تحت الحنك، رواية واحدة، وهل يشترط أن يكون قد لبسها على طهارة فيه روايتان، واختلفت الرواية عنه أيضا في مسح المرأة على قناعها المستدير تحت حلقها، فروي عنه جواز المسح كعمامة الرجل ذات الحنك، وروي عنه المنع، ونقل عن الأوزاعي والثوري جواز المسح على العمامة، ولم أر حكاية الاشتراط ولا عدمه عنهما، وقد ذكر لنا دليل الجواز في كتاب الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية.

وأرجلكم إلى الكعبين وهما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم، ومنه الكاعب - وهي الجارية التي تبدو ثديها للنهود - وروى هشام عن محمد أن الكعب هو المفصل الذي في وسط القدم عند معترك الشراك؛ لأن الكعب اسم للمفصل، ومنه كعوب الرمح، والذي في وسط القدم مفصل دون ما على الساق، وهذا صحيح في المحرم إذا لم يجد نعلين، فإنه يقطع خفيه أسفل من الكعبين، ولعل ذلك مراد محمد ، فأما في الطهارة فلا شك أنه ما ذكرنا.

وفي الأرجل ثلاث قراءات:

واحدة شاذة واثنتان متواترتان، أما الشاذة فالرفع، وهي قراءة الحسن ، وأما المتواترتان فالنصب: وهي قراءة نافع ، وابن عامر ، وحفص ، والكسائي ، ويعقوب . والجر: وهي قراءة ابن كثير ، وحمزة ، وأبي عمرو ، وعاصم وفي رواية أبي بكر عنه.

ومن هنا اختلف الناس في غسل الرجلين ومسحهما، قال الإمام الرازي: فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وعكرمة ، والشعبي ، وأبي جعفر محمد بن علي الباقر - رضي الله تعالى عنهم - أن الواجب فيها المسح، وهو مذهب الإمامية ، وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل، وقال داود : يجب الجمع بينهما، وهو قول الناصر للحق من الزيدية ، وقال الحسن البصري ، ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخير بين المسح والغسل، وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر؛ فإنها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرءوس، فكما وجب المسح فيها وجب فيها.

والقول إنه جر بالجوار كما في قولهم: هذا جحر ضب خرب، وقوله:


كأن ثبيرا في عرانين وبله     كبير أناس في بجاد مزمل



باطل من وجوه:

أولها أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله تعالى يجب تنزيهه عنه.

وثانيها أن الكسر إنما يصار إليه حيث حصل الأمن من الالتباس، كما فيما استشهدوا به، [ ص: 74 ] وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.

وثالثها أن الجر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب.

وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر فقالوا: إنها تقتضي المسح أيضا؛ لأن العطف حينئذ على محل الرءوس لقربه فيتشاركان في الحكم، وهذا مذهب مشهور للنحاة، ثم قالوا: أو لا يجوز رفع ذلك بالإخبار؛ لأنها بأسرها من باب الآحاد، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز.

ثم قال الإمام: واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين:

الأول أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحها.

والثاني أن فرض الأرجل محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح، والقوم أجابوا عنه من وجهين:

الأول أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم، وعلى هذا التقدير يجب المسح على ظهر القدمين.

والثاني أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين، وحينئذ لا يبقى هذا السؤال، انتهى.

ولا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام، وطالما زلت فيه أقدام، وما ذكره الإمام - رحمه الله تعالى - يدل على أنه راجل في هذا الميدان وضالع، لا يطيق العروج إلى شاوي ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان، فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغما لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك.

فنقول وبالله تعالى التوفيق، وبيده أزمة التحقيق:

إن القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين، فلا بد لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أولا مهما أمكن؛ لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال، كما تقرر عند أهل الأصول، ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لنا الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة.

وقد ذكر الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة؛ فإنها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل، وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض.

فلما تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما بقواعدنا من وجهين:

الأول أن يحمل المسح على الغسل، كما صرح به أبو زيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة، فيقال للرجل إذا توضأ: تمسح، ويقال: مسح الله تعالى ما بك، أي: أزال عنك المرض، ومسح الأرض المطر إذا غسلها، فإذا عطفت الأرجل على الرءوس في قراءة الجر لا يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة .

واعترض ذلك من وجوه:

أولها أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة، وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة، فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحدا؟!

وثانيها أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرءوس، وكان الفرض في الرءوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف، وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.

وثالثها أنه لو كان المسح - بمعنى الغسل - يسقط الاستدلال على الغسل بخبر « أنه صلى الله تعالى عليه وسلم غسل رجليه » لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحها فسمى المسح غسلا.

ورابعها أن استشهاد أبي زيد بقولهم: تمسحت للصلاة لا يجدي نفعا؛ لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا [ ص: 75 ] عن الطهور بلفظ موجز ولم يجز أن يقولوا: تغسلت للصلاة؛ لأن ذلك يوهم الغسل قالوا بدله: تمسحت؛ لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، فتجوزوا بذلك؛ تعويلا على فهم المراد، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل.

وأجيب عن الأول بأنا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغة وشرعا، ولا تفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء، لكنا ندعي أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز، وليس في اللغة والشرع ما يأباه، على أنه قد ورد ذلك في كلامهم.

وعن الثاني بأنا نقدر لفظ امسحوا قبل أرجلكم أيضا، وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدد المعنى، ولا محذور فيه، فقد نقل شارح زبدة الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز، بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي وفي المعطوف بالمعنى المجازي.

وقالوا في آية لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل : إن الصلاة في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي وهو الأركان المخصوصة، وفي المعطوف بالمعنى المجازي وهو المسجد، فإنه محل الصلاة، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الاستخدام، وبذلك فسر الآية جمع من مفسري الإمامية وفقهائهم، وعليه فيكون هذا العطف من عطف الجمل في التحقيق، ويكون المسح المتعلق بالرءوس بالمعنى الحقيقي والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي، على أن من أصول الإمامية - كالشافعية - جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكذا استعمال المشترك في معنييه، ويحتمل هنا إضمار الجار تبعا للفعل، فتدبر.

ولا يشكل أن في الآية حينئذ إبهاما، ويبعد وقوع ذلك في التنزيل؛ لأنا نقول: إن الآية نزلت بعدما فرض الوضوء، وعلمه عليه الصلاة والسلام روح القدس إياه في ابتداء البعثة بسنين، فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام؛ فإن المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء، ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية، ولم تنزل الآية لتعليمهم، بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر، وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد، والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان المشبع.

وعن الثالث بأن حمل المسح على الغسل لداع لا يستلزم حمل الغسل على المسح بغير داع، فكيف يسقط الاستدلال؟! سبحان الله تعالى، هذا هو العجب العجاب.

وعن الرابع بأنا لا نسلم أن العدول عن ( تغسلت ) لإيهامه الغسل؛ فإن ( تمسحت ) يوهم ذلك أيضا، بناء على ما قاله من أن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، سلمنا ذلك، لكنا لم نقتصر في الاستشهاد على ذلك، ويكفي ( مسح الأرض المطر ) في الفرض.

والوجه الثاني أن يبقى المسح على الظاهر، وتجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات، كما في قراءة النصب والجر للمجاوره، واعترض أيضا من وجوه:

الأول والثاني والثالث ما ذكره الإمام من عد الجر بالجوار لحنا، وأنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس، ولا أمن فيما نحن فيه، وكونه إنما يكون بدون حرف العطف.

والرابع أن في العطف على المغسولات - سواء كان المعطوف منصوب اللفظ أو مجروره - الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ليست اعتراضية، وهو غير جائز عند النحاة، على أن الكلام حينئذ من قبيل: ( ضربت زيدا وأكرمت خالدا وبكرا ) بجعل بكر عطفا على زيد، أو إرادة أنه مضروب لا مكرم، وهو مستهجن جدا، تنفر عنه الطباع، ولا تقبله الأسماع، فكيف يجنح إليه؟! أو يحمل كلام الله تعالى عليه؟!

وأجيب عن الأول بأن إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار، وقالوا بوقوعه في الفصيح، كما ستسمعه - إن شاء الله تعالى - ولم ينكره إلا الزجاج ، وإنكاره مع [ ص: 76 ] ثبوته في كلامهم يدل على قصور تتبعه، ومن هنا قالوا: المثبت مقدم على النافي.

وعن الثاني بأنا لا نسلم أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس، ولا نقل في ذلك عن النحاة في الكتب المعتمدة، نعم، قال بعضهم: شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكتة، وهو هنا كذلك؛ لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بممسوح، إذ المسح لم يوجد مغيا في كلامهم، ولذا لم يغي في آية التيمم، وإنما يغيا الغسل، ولذا غيي في الآية حين احتيج إليه، فلا يرد أنه لم يغي غسل الوجه لظهور الأمر فيه، ولا قول المرتضى: إنه لا مانع من تغييه، والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل، حتى كأنه مسح.

وعن الثالث بأنهم صرحوا بوقوعه في النعت، كما سبق من الأمثلة، وقوله تعالى: عذاب يوم محيط بجر ( محيط ) مع أنه نعت للعذاب، وفي التوكيد كقوله:


ألا بلغ ذوي الزوجات كلهم     أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب



بجر ( كلهم ) على ماحكاه الفراء .

وفي العطف كقوله تعالى: ( وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ) على قراءة حمزة والكسائي ، وفي رواية المفضل عن عاصم فإنه مجرور بجوار ( أكواب وأباريق ) ومعطوف على ( ولدان مخلدون ) وقول النابغة :


لم يبق إلا أسير غير منفلت     وموثق في حبال القد مجنوب



بجر ( موثق ) مع أن العطف على ( أسير ) وقد عقد النحاة لذلك بابا على حدة لكثرته، ولما فيه من المشاكلة، وقد كثر في الفصيح حتى تعدوا عن اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك، وكلام ابن الحاجب في هذا المقام لا يعبأ به.

وعن الرابع بأن لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة ( وامسحوا برءوسكم ) متعلقة بجملة المغسولات، فإن كان معناها ( وامسحوا الأيدي بعد الغسل برءوسكم ) فلا إخلال، كما هو مذهب كثير من أهل السنة من جواز المسح ببقية ماء الغسل، واليد المبلولة من المغسولات، ومع ذلك لم يذهب أحد من أئمة العربية إلى امتناع الفصل بين الجملتين المتعاطفتين، أو معطوف ومعطوف عليه، بل صرح الأئمة بالجواز، بل نقل أبو البقاء إجماع النحويين على ذلك، نعم، توسط الأجنبي في كلام البلغاء يكون لنكتة، وهي هنا ما أشرنا إليه، أو الإيماء إلى الترتيب، وكون الآية من قبيل ما ذكر من المثال في حيز المنع، وربما تكون كذلك لو كان النظم: ( وامسحوا رءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) والواقع ليس كذلك، وقد ذكر بعض أهل السنة أيضا وجها آخر في التطبيق، وهو أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفف، وقراءة النصب على حال دونه، واعترض بأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما؛ لأن الخف اعتبر مانعا سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة، وما حل بالخف أزيل بالمسح، فهو على الخف حقيقة وحكما، وأيضا المسح على الخف لا يجب إلى الكعبين اتفاقا، وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذي يجزئ عليه المسح؛ لأنه لا يجزئ على ساقه، نعم، هذا الوجه لا يخلو عن بعد، والقلب لا يميل إليه، وإن ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية.

وللإمامية في تطبيق القراءتين وجهان أيضا، لكن الفرق بينهما وبين ما سبق من الوجهين اللذين عند أهل السنة أن قراءة النصب التي هي ظاهرة في الغسل عند أهل السنة، وقراءة الجر تعاد إليها، وعند الإمامية بالعكس.

الوجه الأول: أن تعطف الأرجل في قراءة النصب على محل ( برءوسكم ) فيكون حكم الرءوس والأرجل كليهما مسحا.

الوجه الثاني: أن الواو فيه بمعنى ( مع ) من قبيل استوى الماء والخشبة، وفي كلا الوجهين بحث لأهل السنة من وجوه:

الأول أن العطف على المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، والظاهر العطف على المغسولات، [ ص: 77 ] والعدول عن الظاهر إلى خلافه بلا دليل لا يجوز، وإن استدلوا بقراءة الجر قلنا: إنها لا تصلح دليلا لما علمت.

والثاني إنه لو عطف ( وأرجلكم ) على محل ( برءوسكم ) جاز أن نفهم منه معنى الغسل؛ إذ من القواعد المقررة في العلوم العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران في المعنى - ويكون لكل منهما متعلق - جاز حذف أحدهما، وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور، كأنه متعلقه، ومن ذلك قوله:


يا ليت بعلك قد غدا     متقلدا سيفا ورمحا



فإن المراد: وحاملا رمحا.

ومنه قوله:


إذا ما الغانيات برزن يوما     وزججن الحواجب والعيونا



فإنه أراد: وكحلن العيونا.

وقوله:


تراه كأن مولاه يجدع أنفه     وعينيه إن مولاه كان له وفر



أي: يفقئ عينيه، إلى ما لا يحصى كثرة.

والثالث أن جعل ( الواو ) بمعنى ( مع ) بدون قرينة مما لا يكاد يجوز، ولا قرينة ها هنا على أنه يلزم، كما قيل: فعل المسحين معا بالزمان، ولا قائل به بالاتفاق.

بقي لو قال قائل: لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية ما لم ينضم إليها من خارج ما يقوي تطبيق أهل السنة، فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك عسى أن يكون فرسا رهان، قيل له: إن سنة خير الورى - صلى الله تعالى عليه وسلم - وآثار الأئمة - رضي الله تعالى عنهم - شاهدة على ما يدعيه أهل السنة، وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى، وأما من طريق القوم، فقد روى العياشي ، عن علي ، عن أبي حمزة قال: « سألت أبا هريرة عن القدمين؟ فقال: تغسلان غسلا ».

وروى محمد بن النعمان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله - رضي الله تعالى عنه - قال: «إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك، فامسح رأسك ثم اغسل رجليك» وهذا الحديث رواه أيضا الكلبي ، وأبو جعفر الطوسي بأسانيد صحيحة، بحيث لا يمكن تضعيفها، ولا الحمل على التقية؛ لأن المخاطب بذلك شيعي خاص.

وروى محمد بن الحسن الصفار ، عن زيد بن علي ، عن أبيه، عن جده أمير المؤمنين - كرم الله تعالى وجهه - أنه قال: « جلست أتوضأ فأقبل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فلما غسلت قدمي قال: يا علي خلل بين الأصابع ».

ونقل الشريف الرضي عن أمير المؤمنين - كرم الله تعالى وجهه - في نهج البلاغة حكاية وضوئه - صلى الله تعالى عليه وسلم - وذكر فيه غسل الرجلين، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة، ولم يدع أحد منهم النسخ ليتكلف لإثباته كم ظنه من لا وقوف له.

وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وأنس بن مالك ، وغيرهما كذب مفترى عليهم، فإن أحدا منهم ما روي عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح، إلا أن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - فإنه قال بطريق التعجب: «لا نجد في كتاب الله تعالى إلا المسح، ولكنهم أبوا إلا الغسل» ومراده أن ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر، التي كانت قراءته، ولكن الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل، ففي كلامه هذا إشارة إلى أن قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم – والصحابة، رضي الله تعالى عنهم.

ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية ، وعكرمة ، والشعبي زور وبهتان أيضا، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير، [ ص: 78 ] والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة، ورواها بعض أهل السنة، ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع، ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمترشد في الإمامة لأبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي ، الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه، ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روي عن أمير المؤمنين علي - كرم الله تعالى وجهه - أنه مسح وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائما، وقال: «إن الناس يزعمون أن الشرب قائما لا يجوز وقد رأيت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - صنع مثل ما صنعت »، وهذا وضوء من لم يحدث؛ لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف، كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقا.

وأما ما روي عن عباد بن تميم عن عمه بروايات ضعيفة أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - توضأ ومسح على قدميه فهو - كما قال الحفاظ -: شاذ منكر لا يصلح للاحتجاج، مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازا، واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد.

ومثل ذلك - عند من اطلع على أحوال الرواة - ما رواه الحسين بن سعيد الأهوازي ، عن فضالة ، عن حماد بن عثمان ، عن غالب بن هذيل قال: سألت أبا جعفر - رضي الله تعالى عنه - عن المسح على الرجلين فقال: هو الذي نزل به جبريل ، عليه السلام.

وما روي عن أحمد بن محمد قال: «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر - رضي الله تعالى عنه - عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين، فقلت له: لو أن رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزئ؟ قال: لا، إلا بكفه كلها» إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب، ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم.

وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا النفحات القدسية في رد الإمامية ، على أن لنا أن نقول: لو فرض أن حكم الله تعالى المسح - على ما يزعمه الإمامية من الآية - فالغسل يكفي عنه، ولو كان هو الغسل لا يكفي عنه، فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح، وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة، وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة، فلا يرد ما قيل من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض، وأيضا كان يلزم الشيعة الغسل؛ لأنه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب سبحانه وتعالى؛ لأنه الأحوط أيضا لكون سنده متفقا عليه للفريقين كما سمعت دون المسح للاختلاف في سنده.

وقال بعض المحققين: قد يلزمهم - بناء على قواعدهم - أن يجوزوا الغسل والمسح ولا يقتصروا على المسح فقط، وزعم الجلال السيوطي أنه لا إشكال في الآية بحسب القراءتين عند المخيرين، إلا أنه يمكن أن يدعى لغيرهم أن ذلك كان مشروعا أولا ثم نسخ بتعيين الغسل، وبقيت القراءتان ثابتتين في الرسم، كما نسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم، وبقي رسم ذلك ثابتا، ولا يخفى أنه أوهن من بيت العنكبوت، وإنه لأوهن البيوت.

هذا، وأما قراءة الرفع فلا تصلح في الاستدلال للفريقين؛ إذ لكل أن يقدر ما شاء ومن هنا قال الزمخشري فيها: إنها على معنى: ( وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة ) لكن ذكر الطيبي أنه لا شك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الاسمية وحذف خبرها يدل على إرادة ثبوتها وظهورها، وأن مضمونها مسلم الحكم، ثابت، لا يلتبس، وإنما يكون [ ص: 79 ] كذلك إذا جعلت القرينة ما علم من منطوق القراءتين ومفهومهما، وشوهد وتعورف من فعل الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله تعالى عنهم - وسمع منهم، واشتهر فيما بينهم.

وقد قال عطاء : والله ما علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - مسح على القدمين، وكل ذلك دافع لتفسيره هذه القراءة بقوله: ( وأرجلكم ) مغسولة أو ممسوحة على الترديد، لاسيما العدول من الإنشائية إلى الإخبارية المشعر بأن القوم كأنهم سارعوا فيه، وهو يخبر عنه، انتهى، فالأولى أن يقدر ما هو من جنس الغسل على وجه يبقى معه الإنشاء.

وبمجموع ما ذكرنا يعلم ما في كلام الإمام الرازي - قدس الله سره - ونقله مما قدمناه، فاعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ثم اعلم أنهم اختلفوا في أن الآية هل تقتضي وجوب النية أم لا، فقال الحنفية: إن ظاهره لا يقتضي ذلك، والقول بوجوبها يقتضي زيادة في النص، والزيادة فيه تقتضي النسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير واقع، بل غير جائز عند الأكثرين، وكذا بالقياس على المذهب المنصور للشافعي - رضي الله تعالى عنه - كما قاله المروزي ، فإذن لا يصح إثبات النية.

وقال بعض الشافعية: إن الآية تقتضي الإيجاب؛ لأن معنى قوله تعالى: ( إذا قمتم ) إذا أردتم القيام وأنتم محدثون، والغسل وقع جزاء لذلك، والجزاء مسبب عن الشرط، فيفيد وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة، وبذلك يثبت المطلوب.

وقال آخرون - وعليه المعول عندهم -: وجه الاقتضاء أن الوضوء مأمور به، وهو ظاهر، وكل مأمور به يجب أن يكون عبادة، وإلا لما أمر به، وكل عبادة لا تصح بدون النية، لقوله تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين والإخلاص لا يحصل إلا بالنية، وقد جعل حالا للعابدين، والأحوال شروط، فتكون كل عبادة مشروطة بالنية، وقاسوا أيضا الوضوء على التعميم في كونهما طهارتين للصلاة، وقد وجبت النية في المقيس عليه، فكذا في المقيس، ولنا القول بموجب العلة، يعني سلمنا أن كل عبادة بنية، والوضوء لا يقع عبادة بدونها، لكن ليس كلامنا في ذلك، بل في أنه إذا لم ينو حتى لم يقع عبادة سببا للثواب، فهل يقع الشرط المعتبر للصلاة حتى تصح به أو لا؟ ليس في الآية ولا في الحديث المشهور الذي يوردونه في هذا المقام دلالة على نفيه ولا إثباته، فقلنا: نعم، لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لا لذاته، فكيف حصل المقصود وصار كستر العورة؟! وباقي شروط الصلاة التي لا يفتقر اعتبارها إلى أن ينوي، ومن ادعى أن الشرط وضوء هو عبادة فعليه البيان.

والقياس المذكور على التيمم فاسد، فإن من المتفق عليه أن شرط القياس أن لا يكون شرعية حكم الأصل متأخرة عن حكم الفرع، وإلا لثبت حكم الفرع بلا دليل، وشرعية التيمم متأخرة عن الوضوء فلا يقاس الوضوء على التيمم في حكمه.

نعم، إن قصد الاستدلال بآية التيمم بمعنى أنه لما شرع التيمم بشرط النية ظهر وجوبها في الوضوء، وكان معنى القياس أنه لا فارق لم يرد ذلك.

وذكر بعض المحققين في الفرق بين الوضوء والتيمم وجهين:

الأول أن التيمم ينبئ لغة عن القصد، فلا يتحقق بدونه، بخلاف الوضوء.

والثاني أن التراب جعل طهورا في حالة مخصوصة، والماء طهور بنفسه، كما يستفاد من قوله تعالى: ماء طهورا وقوله سبحانه: ليطهركم به فحينئذ يكون القياس فاسدا أيضا.

واعترض الوجه الأول بأن النية المعتبرة ليست نية نفس الفعل، بل أن ينوي المقصود به الطهارة والصلاة، ولو صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، على ما بين في محله، وإذا كان كذلك فإنما ينبئ عن قصد غير المعتبر نية، [ ص: 80 ] فلا يكون النص بذلك موجبا للنية المعتبرة.

ومن هنا يعلم ما في استدلال بعض الشافعية بآية الوضوء على وجوب النية فيه السابق آنفا، وذلك لأن المفاد بالتركيب المقدر إنما هو وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة مع الحدث، لا إيجاب أن يغسل لأجل الصلاة؛ إذ عقد الجزاء الواقع طلبا بالشرط يفيد طلب مضمون الجزاء إذا تحقق مضمون الشرط، وأن وجوبه اعتبر مسببا عن ذلك، فأين طلبه على وجه مخصوص هو فعله على قصد كونه لمضمون الشرط؟ فتأمل، فقد خفي هذا على بعض الأجلة حتى لم يكافئه بالجواب.

والوجه الثاني بأنه إن أريد بالحالة المخصوصة حالة الصلاة فهو مبني على أن الإرادة مرادة في الجملة المعطوفة عليها جملة التيمم.

وأنت قد علمت الآن أن لا دلالة فيها على اشتراط النية، وإن أريد حالة عدم القدرة على استعمال الماء فظاهر أن ذلك لا يقتضي إيجاب النية ولا نفيها، واستفاد كون الماء طهورا بنفسه مما ذكر بأن كون المقصود من إنزاله التطهير به، وتسميته طهورا لا يفيد اعتباره مطهرا بنفسه، أي: رافعا للأمر الشرعي بلا نية، وهو المطلوب، بخلاف إزالته الخبث؛ لأن ذلك محسوس أنه مقتضى طبعه، ولا تلازم بين إزالته حسا صفة محسوسة وبين كونه يرتفع عند استعماله اعتبار شرعي.

والمفاد من ( ليطهركم ) كون المقصود من إنزاله التطهير به، وهذا يصدق مع اشتراط النية - كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه - وعدمه كما قلنا، ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه كما هو المقرر، فتدبر.

واختلفوا أيضا في أنها هل تقتضي وجوب الترتيب أم لا؟ فذهب الحنفية إلى الثاني؛ لأن المذكور فيها الواو وهي لمطلق الجمع على الصحيح المعول عليه عندهم، والشافعية إلى الأول؛ لأن الفاء في ( فاغسلوا ) للتعقيب، فتفيد تعقيب القيام إلى الصلاة بغسل الوجه، فيلزم الترتيب بين الوجه وغيره، فيلزم في الكل لعدم القائل بالفصل.

وأجيب بأنا لا نسلم إفادتها تعقيب القيام به بل جملة الأعضاء، وتحقيقه أن المعقب طلب الغسل وله متعلقات وصل إلى أولها ذكرا بنفسه وإلى الباقي بواسطة الحرف المشترك، فاشتركت كلها فيه من غير إفادة طلب تقديم تعليقه ببعضها على بعض في الوجود، فصار مؤدى التركيب طلب إعقاب غسل جملة الأعضاء، وهذا نظير قولك: ادخل السوق فاشتر لنا خبزا ولحما، حيث كان المفاد أعقاب الدخول بشراء ما ذكر كيفما وقع.

وزعم بعضهم أن إفادة النظم للترتيب؛ لأنه لو لم يرد ذلك لأوجب تقديم الممسوح أو تأخيره عن المغسول، ولأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وفيه نظر؛ لأن قصارى ما يدل عليه النظم أولوية الترتيب، ونحن لا ننكر ذلك.

وقال آخرون: الدليل على الترتيب فعله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقد توضأ عليه الصلاة والسلام مرتبا، ثم قال: «هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به » وفيه أن الإشارة كانت لوضوء مرتب موالى فيه، فلو دل على فرضية الترتيب لدل على فرضية الموالاة، ولا قائل بها عند الفريقين، نعم، أقوى دليل لهم قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في حجة الوداع: « ابدءوا بما بدأ الله تعالى به » بناء على أن الأمر للوجوب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأجيب عن ذلك بما أجيب، إلا أن الاحتياط لا يخفى.

وهذا المقدار يكفي في الكلام على هذه الآية، والزيادة على ذلك ببيان سنن الوضوء ونواقضه وما يتعلق به - مما لا تفهمه الآية كما فعل بعض المفسرين - فضول لا فضل، وإظهار علم يلوح من خلاله الجهل.

وإن كنتم جنبا أي عند القيام إلى الصلاة فاطهروا أي: فاغتسلوا على أتم وجه، وقرئ: ( فاطهروا ) أي: فطهروا أبدانكم، والمضمضة والاستنشاق هنا فرض كغسل سائر البدن؛ لأنه سبحانه أضاف التطهير إلى مسمى الواو، وهو جملة بدن كل مكلف، فيدخل كل ما يمكن الإيصال إليه [ ص: 81 ] إلا ما فيه حرج كداخل العينين، فيسقط للحرج، ولا حرج في داخل الفم والأنف، فيشملهما نص الكتاب من غير معارض، كما شملها قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فيما رواه أبو داود : « تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر وأنقوا البشرة » وكونهما من الفطرة كما جاء في الخبر لا ينفي الوجوب؛ لأنها الدين، وهو أعم منه، وتشعر الآية بأنه لا يجب الغسل على الجنب فورا ما لم يرد فعل ما لا يجوز بدونه، ويؤيد ذلك ما صح أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - « خرج لصلاة الفجر ناسيا أنه جنب حتى إذا وقف تذكر، فانصرف راجعا فاغتسل، وخرج ورأسه الشريف يقطر ماء ».

وإن كنتم مرضى مرضا تخافون به الهلاك، أو ازدياده باستعمال الماء.

أو على سفر أي: مستقرين عليه.

أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ( من ) لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض، وهو متعلق بـ( فامسحوا ).

وقرأ عبد الله ( فأموا صعيدا ) وقد تقدم تفسير الآية في سورة النساء، فليراجع.

ولعل التكرير ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة، ولئلا يتوهم النسخ على ما قيل، بناء على أن هذه السورة من آخر ما نزل.

ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة، والغسل من الجنابة، أو بالأمر بالتيمم ليجعل عليكم من حرج أي: ضيق في الامتثال و( الجعل ) يحتمل أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد، فيتعدى لواحد، وهو ( من حرج ) و( من ) زائدة و( عليكم ) حينئذ متعلق بالجعل، وجوز أن يتعلق بـ( حرج ) وإن كان مصدرا متأخرا، ويحتمل أن يكون بمعنى التصيير، فيكون ( عليكم ) هو المفعول الثاني ولكن يريد أي: بذلك ليطهركم أي: لينظفكم، فالطهارة لغوية، أو ليذهب عنكم دنس الذنوب، فإن الوضوء يكفر الله تعالى به الخطايا.

فقد أخرج مالك ، ومسلم ، وابن جرير ، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: « إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه فخرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى خرج نقيا من الذنوب » فالطهارة معنوية بمعنى تكفير الذنوب لا بمعنى إزالة النجاسة؛ لأن الحدث ليس نجاسة بلا خلاف، وإطلاق ذلك عليه باعتبار أنه نجاسة حكمية بمعنى كونه مانعا من الصلاة لا بمعنى كونه بحيث يتنجس الطعام أو الشراب الرطب بملاقاته المحدث، أو تفسد الصلاة بحمله، وأما تنجس الماء - فيما شاع عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وروي رجوعه عنه - فلانتقال المانعية والآثام إليه حكما، وقيل: المراد تطهير القلب عن دنس التمرد عن طاعة الله تعالى.

وجوز أن يكون المراد ( ليطهركم ) بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء، والمراد بالتطهير رفع الحدث والمانع الحكمي.

وأما ما نقل عن بعض الشافعية كإمام الحرمين من أن القول بأن التراب مطهر قول ركيك فمراده به منع الطهارة الحسية، فلا يرد عليه أنه مخالف للحديث الصحيح: « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » والإرادة صفة ذات، وقد شاع تفسيرها، ومفعولها في الموضعين محذوف، كما أشير إليه، واللام للعلة، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين، وقيل: هي مزيدة، والمعنى: ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم، ولكن يريد أن يطهركم، وضعف بأن ( ألا ) تقدر بعد المزيدة، وتعقب بأن هذا مخالف لكلام النحاة، فقد قال الرضي:

[ ص: 82 ] الظاهر أن تقدر ( أن ) بعد اللام الزائدة التي بعد فعل الأمر والإرادة، وكذا في المغني وغيره، ووقوع هذه اللام بعد الأمر والإرادة في القرآن وكلام العرب شائع مقيس، وهو من مسائل الكتاب، قال فيه: سألته - أي الخليل - عن معنى: أريد لأن يفعل؟ فقال: إنما تريد أن تقول: أريد لهذا، كما قال تعالى: وأمرت لأن أكون أول المسلمين انتهى.

واختلف فيه النحاة، فقال السيرافي : فيه وجهان:

أحدهما ما اختاره البصريون ، أن مفعوله مقدر، أي: أريد ما أريد لأن تفعل، فاللام تعليلية غير زائدة.

الثاني أنها زائدة لتأكيد المفعول.

وقال أبو علي في التعليق عن المبرد: إن الفعل دال على المصدر، فهو مقدر أي: أردت وإرادتي لكذا، فحذف ( إرادتي ) واللام زائدة، وهو تكلف بعيد.

والمذاهب ثلاثة:

أقربها الأول.

وأسهلها الثاني، وهو من بليغ الكلام القديم كقوله:


أريد لأنسى ذكرها فكأنما     تمثل لي ليلى بكل سبيل



البلاغة فيه مما يعرفه الذوق السليم، قاله الشهاب.

وليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم نعمته عليكم في الدين، أو ليتم برخصة إنعامه عليكم بالعزائم لعلكم تشكرون نعمته بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه.

ومن لطائف الآية الكريمة - كما قال بعض المحققين - إنها مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى:

طهارتان أصل وبدل.

والأصل اثنان: مستوعب، وغير مستوعب.

وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما التطهير وإتمام النعمة.

وزاد البعض مثنيات أخر، فإن غير المحدود وجه ورأس، والمحدود يد ورجل، والنهاية كعب ومرفق، والشكر قولي وفعلي.

التالي السابق


الخدمات العلمية