صفحة جزء
فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عطية قال: «لما قتله ندم، فضمه إليه، حتى أروح، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله، وكره أن يأتي به آدم - عليه السلام – فيحزنه، وتحير في أمره إذ كان أول ميت من بني آدم - عليه السلام - فبعث الله تعالى غرابين قتل أحدهما الآخر، وهو ينظر إليه، ثم حفر له حفرة بمنقاره وبرجله، حتى مكن له، ثم دفعه [ ص: 116 ] برأسه حتى ألقاه في الحفرة، ثم بحث عليه برجله حتى واراه، وقيل: أحد الغرابين كان ميتا.

والغراب طائر معروف، قيل: والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الحيوان كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب، وذلك مناسب لهذه القصة.

وقال بعضهم: إنه كان ملكا ظهر في صورة غراب، والمستكن في ( يريه ) لله تعالى، أو للغراب، واللام على الأول متعلقة بـ( بعث ) حتما، وعلى الثاني بـ( يبحث ) ويجوز تعلقها بـ( بعث ) أيضا، و( كيف ) حال من الضمير في ( يواري ) قدم عليه؛ لأن له الصدر، وجملة ( كيف يواري ) في محل نصب مفعول ثان لـ( يري ) البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين، وهي معلقة عن الثاني، وقيل: إن ( يريه ) بمعنى يعلمه، إذ لو جعل بمعنى الإبصار لم يكن لجملة ( كيف يواري ) موقع حسن، وتكون الجملة في موقع مفعولين له، وفيه نظر.

والبحث في الأصل التفتيش عن الشيء مطلقا، أو في التراب، والمراد به هنا الحفر، والمراد بالسوأة جسد الميت، وقيده الجبائي بالمتغير، وقيل: العورة؛ لأنها تسوء ناظرها، وخصت بالذكر - مع أن المراد مواراة جميع الجسد - للاهتمام بها؛ لأن سترها آكد، والأول أولى، ووجه التسمية مشترك، وضمير ( أخيه ) عائد على المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم.

وبعثة الغراب كانت من باب الإلهام إن كان المراد منه المتبادر، وبعثة حقيقة إن كان المراد منه ملكا ظهر على صورته، وعلى التقديرين ذهب أكثر العلماء إلى أن الباحث وارى جثته، وتعلم قابيل، ففعل مثل ذلك بأخيه، وروي ذلك عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - وابن مسعود ، وغيرهما.

وذهب الأصم إلى أن الله تعالى بعث من بعثه فبحث في الأرض ووارى هابيل، فلما رأى قابيل ما أكرم الله تعالى به أخاه قال يا ويلتا كلمة جزع وتحسر، والويلة كالويل الهلكة، كأن المتحسر ينادي هلاكه وموته، ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من ينادي، ولا يكون طلب الموت إلا ممن كان في حال أشد منه، والألف بدل من ياء المتكلم، أي ( يا ويلتي ) - وبذلك قرأ الحسن – احضري، فهذا أوانك.

أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب تعجب من عجزه عن كونه مثله؛ لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه مع كونه أشرف منه فأواري سوءة أخي عطف على ( أكون ) وجعله في الكشاف منصوبا في جواب الاستفهام، واعترضه كثير من المعربين، وقال أبو حيان : إنه خطأ فاحش؛ لأن شرط هذا النصب أن ينعقد من الجملة الاستفهامية، والجواب جملة شرطية، نحو: أتزورني فأكرمك، فإن تقديره: إن تزرني أكرمك، ولو قيل ها هنا: إن ( أعجز ) أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوأة أخي لم يصح المعنى؛ لأن المواراة تترتب على عدم العجز لا عليه، وأجاب في الكشف بأن الاستفهام للإنكار التوبيخي، ومن باب: ( أتعصي ربك فيعفو عنك ) بالنصب لينسحب الإنكار على الأمرين، وفيه تنبيه على أنه في العصيان، وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول، فإذا رفع كان كلاما ظاهريا في انسحاب الإنكار، وإذا نصب جاءت المبالغة للتعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو، وفيما نحن فيه نعى على نفسه عجزها، فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة؛ دلالة على التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يهتدي إليه غراب.

ثم قال: فإن قلت: الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه، أما على العفو والموارة فلا، قلت: التوبيخ على جعل كل واحد سببا، أو تنزيله منزلة من جعله سببا لا على العفو والموارة، فافهم، انتهى.

ولعل الأمر بالفهم إشارة إلى ما فيه من البعد، وقيل في توجيه ذلك: إن الاستفهام للإنكار، وهو بمعنى النفي، وهو سبب، والمعنى: إن لم أعجز واريت، واعترض بأنه غير صحيح؛ لأنه [ ص: 117 ] لا يكفي في النصب سببية النفي، بل لا بد من سببية المنفي قبل دخول النفي، ألا ترى أن: ( ما تأتينا فتحدثنا ) مفسر عندهم بأنه لا يكون منك إتيان فتحديث، قال الشهاب : والجواب عنه أنه فرق بين ما نصب في جواب النفي وما نصب في جواب الاستفهام، والكلام في الثاني، فكيف يرد الأول نقضا؟! ولو جعل في جواب النفي لم يرد ما ذكره أيضا؛ لأنه لا حاجة إلى أخذ النفي من الاستفهام الإنكاري مع وضوح تأويل ( عجزت ) بـ( لم أهتد )، وقد قال في التسهيل: إنه ينتصب في جواب النفي الصريح والمؤول، وما نحن فيه من الثاني حكمه، فتأمل، انتهى.

ولعل الأمر بالتأمل الإشارة إن ما في دعوى الفرق بين الاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي، والنفي من الخفاء، وكذا في تأويل ( عجزت ) بـ( لم أهتد ) هنا، فليفهم.

وقرئ ( أعجزت ) بكسر الجيم، وهو لغة شاذة في ( عجز ) وقرئ ( فأواري ) بالسكون على أنه مستأنف، وهم يقدرون المبتدأ لإيضاح القطع عن العطف، أو معطوف إلا أنه سكن للتخفيف، كما قاله غير واحد، واعترضه في البحر بأن الفتحة لا تستثقل حتى تحذف تخفيفا، وتسكين المنصوب عند النحويين ليس بلغة - كما زعم ابن عطية - وليس بجائز، إلا في الضرورة، فلا تحمل القراءة عليها، مع وجود محمل الاستئناف لها، انتهى.

وعلى دعوى الضرورة منع ظاهر؛ فإن تسكين المنصوب في كلامهم كثير، وادعى المبرد أن ذلك من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر.

فأصبح من النادمين أي صار معدودا من عدادهم، وكان ندمه على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره، وحمله على رقبته أربعين يوما أو سنة، أو أكثر على ما قيل، وتلمذة الغراب؛ فإنها إهانة، ولذا لم يلهم من أول الأمر ما ألهم، واسوداد وجهه، وتبري أبويه منه لا على الذنب إذ هو توبة.

التالي السابق


الخدمات العلمية