صفحة جزء
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر خوطب - صلى الله تعالى عليه وسلم - بعنوان الرسالة للتشريف، والإشعار بما يوجب عدم الحزن، والمراد بالمسارعة في الشيء الوقوع فيه بسرعة ورغبة، وإيثار كلمة ( في ) على ( إلى ) للإيذان بأنهم مستقرون في الكفر لا يبرحون، وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها، كإظهار موالاة المشركين، وإبراز آثار الكيد للإسلام، ونحو ذلك.

والتعبير عنهم بالموصول للإشارة بما في حيز صلته إلى مدار الحزن، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكفرة عن أن يحزنوه - صلى الله تعالى عليه وسلم - بمسارعتهم في الكفر، لكنه في الحقيقة نهي له - عليه الصلاة والسلام - عن التأثر من ذلك والمبالاة، والغرض منه مجرد التسلية على أبلغ وجه وآكده؛ فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني، وقطع له من أصله.

وقرئ: ( يحزنك ) بضم الياء وكسر الزاي من ( أحزن ) وهي لغة، وقرئ: ( يسرعون ) يقال: أسرع فيه الشيب أي: وقع فيه سريعا، أي لا تحزن ولا تبال بتهافتهم في الكفر بسرعة حذرا - كما قيل - من شرهم وموالاتهم للمشركين، [ ص: 136 ] فإن الله تعالى ناصرك عليهم، أو شفقة عليهم، حيث لم يوفقوا للهداية، فإن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء من الذين قالوا آمنا بأفواههم بيان للمسارعين في الكفر، وقال أبو البقاء : إنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل ( يسارعون ) أو من الموصول، أي: كائنين من الذين إلخ، والباء متعلقة بـ( قالوا ) لا بـ( آمنا ) لظهور فساده، وتعلقها به على معنى: بذي أفواههم أي: يؤمنون بما يتفوهون به، من غير أن تلتف به قلوبهم مما لا ينبغي أن يلتفت إليه من له أدنى تمييز.

ولم تؤمن قلوبهم جملة حالية من ضمير ( قالوا ) وقيل: عطف على ( قالوا )، وقوله سبحانه وتعالى: ومن الذين هادوا عطف على ( من الذين قالوا ) وبه تم تقسيم المسارعين إلى قسمين: منافقين ويهود، فقوله سبحانه وتعالى سماعون للكذب خبر مبتدأ محذوف، أي هم سماعون، والضمير للفريقين، أو للذين يسارعون، وجوز أن يكون للذين هادوا، واعترض بأنه مخل بعموم الوعيد الآتي ومباديه للكل، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

وكذا جعل غير واحد ( ومن الذين ) إلخ، خبرا على أن ( سماعون ) صفة لمبتدأ محذوف، أي: ومنهم قوم سماعون لأدائه، إلى اختصاص ما عدد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم، على أنه قد قرئ ( سماعين ) بالنصب على الذم، وهو ظاهر في أرجحية العطف، فالوجه ذلك، واللام للتقوية كما في قوله تعالى: فعال لما يريد وقيل: لتضمين السماع معنى القبول، أي قابلون لما يفتريه الأحبار من الكذب على الله تعالى ورسوله - عليه الصلاة والسلام - وتحريف كتابه، واعترضه الشهاب بأن هذا يقتضي أنه إنما فسر بالقبول ليعديه باللام.

وقد قال الزجاج : يقال: لا تسمع من فلان أي لا تقبل، ومنه: سمع الله لمن حمده، أي تقبل منه حمده، وكلام الجوهري يخالفه أيضا، ويقتضي أنه ليس مبنيا على التضمين، وقال عصام الملة : إن القبول أيضا متعد بنفسه، ففي القاموس: قبله كعمله وتقبله بمعنى أخذه، نعم، يتعدى السماع - بمعنى القبول - باللام بمعنى ( من ) كما في سمع الله لمن حمده، أي قبل الله تعالى ممن حمده، لكن هذه اللام تدخل على المسموع منه لا المسموع.

وجوز أن تكون اللام للعلة، والمفعول محذوف، أي سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه، بأن يمسخوه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، أو كلام الناس الدائر فيما بينهم ليكذبوا بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسار سراياهم، أو نحو ذلك مما فيه ضرر بهم، وأيا ما كان فالجملة مستأنفة جارية - على ما قيل - مجرى التعليل للنهي، أو مسوقة لمجرد الذم، كما يقتضيه قراءة النصب.

وقوله تعالى شأنه: سماعون لقوم آخرين لم يأتوك خبر ثان للمبتدأ المقدر للأول، ومبين لما هو المراد بالكذب على تقدير التقوية والتضمين، واللام هنا مثلها في ( سمع الله لمن حمده ) والمعنى: مبالغون في قبول كلام قوم آخرين، واختاره شيخ الإسلام.

وجوز كونها لام التعليل، أي سماعون كلامه - صلى الله تعالى عليه وسلم - الصادر منه؛ ليكذبوا عليه لأجل قوم آخرين، والمراد أنهم عيون عليه - عليه الصلاة والسلام - لأولئك القوم، وروي ذلك عن الحسن ، والزجاج ، واختاره أبو علي الجبائي ، وليس في النظم ما يأباه، ولا بعد فيه.

نعم، ما قيل من أنه يجوز أن تتعلق اللام بالكذب على أن ( سماعون ) الثاني مكرر للتأكيد بمعنى: ( سماعون ليكذبوا لقوم آخرين ) بعيد، و( آخرين ) صفة لـ( قوم ) وجملة ( لم يأتوك ) صفة أخرى، والمعنى لم يحضروا عندك، وقيل: هو كناية عن أنهم لم يقدروا أن ينظروا إليك، وفيه دلالة على شدة بغضهم له، وفرط عدواتهم، واحتمال كونها صفة [ ص: 137 ] ( سماعون ) أي ( سماعون ) لم يقصدوك بالإتيان، بل قصدوا السماع للإنهاء إلى قوم آخرين مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.

وقوله سبحانه وتعالى: يحرفون الكلم من بعد مواضعه صفة أخرى لـ( قوم ) وصفوا أولا بمغايرتهم للسماعين؛ تنبيها على استقلالهم وأصالتهم في الرأي، ثم بعدم حضورهم مجلس رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إيذانا بكمال طغيانهم في الضلال، أو بعدم قدرتهم على النظر إليه - عليه الصلاة والسلام - إيذانا بما تقدم، ثم باستمرارهم على التحريف؛ بيانا لإفراطهم في العتو والمكابرة والاجتراء على الله تعالى، وتعيينا للكذب الذي سمعه السماعون على بعض الوجوه، كما هو الظاهر.

وقيل: الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، ناعية عليهم شنائعهم، وقيل: خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم، وقيل: إلى الفريقين، والمعنى: يميلون ويزيلون التوراة أو كلام الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - أو كليهما، أو مطلق الكلم - في قول - عن المواضع التي وضع ذلك فيها، إما لفظا بإهماله أو تغيير وضعه، وإما معنى بحمله على غير المراد، وإجرائه في غير مورده.

ومن هنا يعلم توجيه قوله تعالى: من بعد مواضعه دون ( عن مواضعه ).

وقال عصام الملة : إن إدراج لفظ ( بعد ) للتنبيه على تنزيل الكلم منزلة هي أدنى مما وضعت فيه؛ لأنه إبطال النافع بالضار، لا بالنافع أو الأنفع، فكأن المحرف واقف في موضع هو أدنى من موضع الكلمة يحرفها إلى موضعه، ولا يخفى بعده.

وقال بعضهم: إن ( من ) للابتداء، ولفظ ( بعد ) للإشارة إلى أن التحريف مما بعد إلى موضع أبعد، وفيه من المبالغة في التشنيع ما لا يخفى، وقرأ إبراهيم: ( يحرفون الكلام عن مواضعه ).

وقوله سبحانه وتعالى: ( يقولون ) كالجملة السابقة في الوجوه، ويجوز أن تكون حالا من ضمير ( يحرفون ) وجوز كونها كالتي قبلها صفة لـ( سماعون ) أو حالا من الضمير فيه، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا، كيف لا وأن مقول القول ناطق بأن قائله ممن لا يحضر مجلس الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - والمخاطب به ممن يحضره، فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه - عليه الصلاة والسلام - لمن لا يحوم حول حضرته قطعا، وادعاء قول السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر مخل بجزالة النظم الكريم.

فالحق الذي لا محيد عنه وعليه درج غالب المفسرين أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون، أي: يقولون لأتباعهم السماعين لهم إن أوتيتم من جهة الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - كما هو الظاهر هذا فخذوه واعملوا بموجبه؛ فإنه موافق للحق وإن لم تؤتوه من جهته، بل أوتيتم غيره فاحذروا قبوله، وإياكم وإياه، أو فاحذروا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف من المبالغة والتحذير ما لا يخفى.

أخرج أحمد ، وأبو داود ، وابن جرير ، وغيرهم، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه قال: «إن طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم – المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يومئذ لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، وأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط، دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، ودية بعضهم نصف دية بعض؟! إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم [ ص: 138 ] لنا وقوة منكم، فأما إذ قدم محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم – فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول - صلى الله تعالى عليه وسلم – بينهما، ففكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيما وقهرا لهم، فدسوا إلى محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - من يخبر لكم رأيه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكموه حذرتموه فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فلما جاءوا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أخبر الله تعالى رسوله - عليه الصلاة والسلام - بأمرهم كله وماذا أرادوا، فأنزل ( يا أيها الرسول ) الآية ، وعلى هذا يكون أمر التحريف غير ظاهر الدخول في القصة.

وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - « أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم – المدينة، وقد زنى رجل بعد إحصانه بامرأة من يهود، وقد أحصنت، فقالوا: ابعثوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - فاسألوه كيف الحكم فيهما، وولوه الحكم فيهما، فإن عمل فيهما عملكم من التجبية - وهي الجلد بحبل من ليف مطلي بقار - ثم تسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وجوههما من قبل دبر الحمار فاتبعوه، فإنما هو ملك، سيد قوم، وإن حكم فيهما بغيره فإنه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكم إياه، فأتوه فقالوا: يا محمد ، هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما فقد وليناك الحكم فيهما، فمشى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حتى أتى أحبارهم في بيت المدراس، فقال: يا معشر يهود، أخرجوا إلي علماءكم، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا ، وأبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فسألهم رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ثم حصل أمرهم إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة، فخلا به رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا، فألظ به رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - المسألة يقول: يا ابن صوريا أنشدك الله تعالى، وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل، هل تعلم أن الله تعالى حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبي مرسل، ولكنهم يحسدونك، فخرج رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فأمر بهما فرجما عند باب مسجده» ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ، وجحد نبوة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: ( يا أيها الرسول ) إلخ.

وأخرج الحميدي في مسنده، وأبو داود ، وابن ماجه ، عن جابر بن عبد الله أنه قال: « زنى رجل من أهل فدك ، فكتبوا إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك فقال: أرسلوا إلى أعلم رجلين منكم، فجاءوا برجل أعور يقال له: ابن صوريا ، وآخر، فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لهما: أليس عندكما التوراة فيها حكم الله تعالى؟ قالا: بلى، قال: فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلل عليكم الغمام، ونجاكم من آل فرعون، وأنزل التوراة على موسى - عليه السلام - وأنزل المن السلوى على بني إسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقال أحدهما للآخر: ما أنشدت بمثله قط، قالا: نجد ترداد النظر ريبة، والاعتناق ريبة، والقبل ريبة، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدي ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم، فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فهو كذلك، فأمر به فرجم.

[ ص: 139 ] وفي جريان الإحصان الشرعي الموجب للرجم في الكافر ما هو مذكور في الفروع، ولعل هذا عند من يشترط الإسلام كالإمام أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - كان على اعتبار شريعة موسى - عليه الصلاة السلام - أو كان قبل نزول الجزية، فليتدبر.

ومن يرد الله فتنته أي عذابه، كما روي عن الحسن وقتادة ، واختاره الجبائي وأبو مسلم ، أو إهلاكه، كما روي عن السدي والضحاك، أو خزيه وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه، كما نقل عن الزجاج ، أو اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده، فيدفع ذلك ويحرفه - كما قيل - وليس بشيء.

والمراد العموم، ويندرج فيه المذكورون اندراجا أوليا، وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بظهوره، واستغنائه عن الذكر فلن تملك له فلن تستطيع له من الله شيئا في دفع تلك الفتنة، والفاء جوابية و( من الله ) متعلق بـ( تملك ) أو بمحذوف وقع حالا من ( شيئا ) لأنه صفته في الأصل، أي شيئا كائنا من لطف الله تعالى، أو بدل الله - عز اسمه، و( شيئا ) مفعول به لـ( تملك ) وجوز بعض المعربين أن يكون مفعولا مطلقا، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، أو مبينة لعدم انفكاك أولئك عن القبائح المذكورة أبدا.

أولئك أي المذكورون من المنافقين واليهود ، وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مرت الإشارة إليه مرارا، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من رجس الكفر، وخبث الضلالة، والجملة استئنافية، مبينة لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم المقتضي لها، لا واقعة منه سبحانه ابتداء، وفيها كالتي قبلها - على أحد التفاسير - دليل على فساد قول المعتزلة: إن الشرور ليست بإرادة الله تعالى، وإنما هي من العباد.

وقول بعضهم: إن المراد لم يرد تطهير قلوبهم من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب، أو لم يرد أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها بأنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان - كما قال البلخي - لا يقدم عليه من له أدنى ذوق بأساليب الكلام.

ومن العجيب أن الزمخشري لما رأى ما ذكر خلاف مذهبه قال: معنى ( من يرد الله فتنته ) من يرد تركه مفتونا وخذلانه ( فلن تملك له من الله شيئا ) فلن تستطيع له من لطف الله تعالى وتوفيقه شيئا، ومعنى ( لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) لم يرد أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم؛ لأنهم ليسوا من أهلها، لعلمه أن ذلك لا ينجع فيهم ولا ينفع، انتهى.

وقد تعقبه ابن المنير بقوله:

كم يتلجلج والحق أبلج

وهذه الآية - كما تراها - منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين، ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة، ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أن الله تعالى ما أراد الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته سبحانه، وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد، ولكن لم يقع، فحسبهم هذه الآية وأمثالها لو أراد الله تعالى أن يطهر قلوبهم من وضر البدع أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وما أشنع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله: لم يرد الله تعالى أن يمنحهم ألطافه لعلمه أن ألطافه لا تنجع، تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون، وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع فلطف من ينفع؟! وإرادة من تنجع؟!

وليس وراء الله للعبد مطمع

انتهى، وتفصيهم عن ذلك عسير.

لهم في الدنيا خزي أما المنافقون فخزيهم فضيحتهم، وهتك سترهم بظهور نفاقهم بين المسلمين، وازدياد غمهم بمزيد انتشار الإسلام، وقوة شوكته، وعلو كلمته. وأما خزي اليهود فالذل، والجزية، والافتضاح بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة، وإجلاء بني النضير من ديارهم.

وتنكير ( خزي ) للتفخيم، وهو مبتدأ و( لهم ) خبره و( في الدنيا ) متعلق بما تعلق [ ص: 140 ] به الخبر من الاستقرار، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من أحوالهم الموجبة للعقاب، كأنه قيل: فما لهم على ذلك من العقوبة؟ فقيل: ( لهم في الدنيا خزي ) وكذا الحال في قوله تعالى: ولهم في الآخرة أي مع الخزي الدنيوي عذاب عظيم لا يقادر قدره، وهو الخلود في النار، مع ما أعد لهم فيها، وضمير ( لهم ) في الجملتين لـ( أولئك ) من المنافقين واليهود جميعا، وقيل: لليهود خاصة، وقيل: لهم إن استأنفت بقوله سبحانه: ( ومن الذين هادوا ) وإلا فللفريقين.

والتكرير مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير والتأكيد، ولذلك كرر قوله سبحانه:

التالي السابق


الخدمات العلمية