صفحة جزء
إن الذين آمنوا كلام مستأنف، مسوق للترغيب في الإيمان والعمل الصالح.

وقد تقدم في آية البقرة الاختلاف في المراد من الذين آمنوا، والمروي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم، وهم المنافقون، وهو الذي اختاره الزجاج ، واختار القاضي أن المراد بهم المتدينون بدين محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - مخلصين كانوا أو منافقين، وقيل: غير ذلك والذين هادوا أي دخلوا في اليهودية والصابئون وهم - كما قال حسن جلبي وغيره -: قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة، وقد تقدم الكلام على ذلك.

وفي حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للجلال السيوطي ما لفظه: ذكر أئمة التاريخ أن آدم - عليه الصلاة والسلام - أوصى لابنه شيث - وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين - وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة، وأنه جاء إلى مصر وكانت تدعى بايلون فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش، واستخلف أنوش ابنه قونان، واستخلف قونان ابنه مهلائيل، [ ص: 201 ] واستخلف مهلائيل ابنه يرد، ودفع الوصية إليه وعلمه جميع العلوم، وأخبره بما يحدث في العالم، ونظر في النجوم، وفي الكتاب الذي أنزل على آدم - عليه الصلاة والسلام - وولد ليرد أخنوخ، وهو إدريس - عليه الصلاة والسلام - ويقال له هرمس، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل ، وتنبأ إدريس - عليه الصلاة والسلام - وهو ابن أربعين سنة، وأراد الملك به سوءا فعصمه الله تعالى، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جده، والعلوم التي عنده، وكان قد ولد بمصر ، وخرج منها، وطاف الأرض كلها، ورجع، فدعا الخلق إلى الله تعالى، فأجابوه حتى عمت ملته الأرض، وكانت ملته الصابئة، وهي توحيد الله تعالى، والطهارة والصوم، وغير ذلك من رسوم التعبدات، وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة، أصغرها الرها، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها، وآمن به، إلى آخر ما قاله، ونقله عن التيفاشي، ويفهم منه قول في الصابئة غير الأقوال المتقدمة.

وفي شذرات الذهب لعبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحاق الصابئي ما نصه: والصابئي بهمز آخره قيل: نسبة إلى صابئي بن متوشلخ بن إدريس - عليه الصلاة والسلام - وكان على الحنيفية الأولى، وقيل: الصابئي بن ماوي ، وكان في عصر الخليل - عليه الصلاة والسلام - وقيل: الصابئي عند العرب من خرج عن دين قومه، انتهى.

والنصارى جمع نصران، وقد مر تفضيله، ورفع ( الصابئون ) على الابتداء، وخبره محذوف لدلالة خبر ( إن ) عليه، والنية فيه التأخير عما في خبر ( إن ) والتقدير: ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى) حكمهم كيت وكيت ( والصابئون ) كذلك، بناء على أن المحذوف في ( إن زيدا، وعمرو قائم ) خبر الثاني لا الأول، كما هو مذهب بعض النحاة، واستدل عليه بقول صابئ بن الحارث البرجمي:


فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب



فإن قوله: ( لغريب ) خبر ( إن ) ولذا دخلت عليه اللام؛ لأنها تدخل على خبر ( إن ) لا على خبر المبتدأ إلا شذوذا، وقيل: إن ( غريب ) فيه خبر عن الاسمين جميعا؛ لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره، نحو: والملائكة بعد ذلك ظهير ورده الخلخالي بأنه لم يرد للاثنين، وإن ورد للجمع، وأجاب عنه ابن هشام بأنهم قالوا في قوله تعالى: عن اليمين وعن الشمال قعيد : إن المراد قعيدان، وهذا يدل على إطلاقه على الاثنين أيضا، فالصواب منع هذا الوجه بأنه يلزم عليه توارد عاملين على معمول واحد، ومثله لا يصح على الأصح، خلافا للكوفيين، ويقول بشر بن أبي حازم:


إذا جزت نواصي آل بدر     فأدوها وأسرى في الوثاق
وإلا فاعلموا أنا وأنتم     بغاة ما بقينا في شقاق



فإن قوله: ( بغاة ما بقينا ) خبر ( إن ) ولو كان خبر ( أنتم ) لقال: ما بقيتم، و( بغاة ) جمع بمعنى الطالب، وقيل: إنه جمع باغ، من البغي والتعدي، وأنتم بغاة جملة معترضة؛ لأنه لا يقول في قومه إنهم بغاة، و( ما بقينا في شقاق ) خبر إن، وحينئذ لا يصلح البيت شاهدا لما ذكر؛ لأن ضمير المتكلم مع الغير في محله، وإنما وسطت الجملة هنا بين إن وخبرها مع اعتبار نية التأخير؛ ليسلم الكلام عن الفصل بين الاسم والخبر، وليعلم أن الخبر ذا دلالة - كما قيل - على أن الصابئين - مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها - حيث قبلت توبتهم إن صح منهم [ ص: 202 ] الإيمان والعمل الصالح فغيرهم أولى بذلك، ومن هنا قيل: إن الجملة كاعتراض دل به على ما ذكر، وإنما لم تجعل اعتراضا حقيقة؛ لأنها معطوفة على جملة ( إن الذين ) وخبرها، وأورد عليه ما قاله ابن هشام من أن فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها، وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر، فكذا ينبغي أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه بل هو أولى منه بالمنع، وأما ما أجاب به عنه بأن الواو واو الاستئناف التي تدخل على الجمل المعترضة كقوله تعالى: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار إلخ، وهذه الجملة معترضة لا معطوفة فلا يتمشى فيما نحن فيه؛ لأنه يفوت نكتة التقديم من التأخير التي أشير إليها؛ لأنها إذا كانت معترضة لا تكون مقدمة من تأخير، وبعض المحققين صرف الخبر المذكور إلى قوله تعالى: ( والصابئون ) وجعل خبر إن محذوفا، وهو القول الآخر للنحاة في مثل هذا التركيب، وهو موافق للاستعمال أيضا، كما في قوله:


نحن بما عندنا وأنت بما     عندك راض والرأي مختلف



فإن قوله: ( راض ) خبر ( أنت ) وخبر نحن محذوف، ورجح بأن الإلحاق بالأقرب أقرب، وبأنه خال عما يلزم عن التوجيه الأول، نعم، غاية ما يرد عليه أن الأكثر الحذف من الثاني لدلالة الأول، وعكسه قليل لكنه جائز، وعورض بأن الكلام فيما نحن فيه مسوق لبيان أهل الكتاب، فصرف الخبر إليهم أولى، وفي توسيط بيان حال الصابئين ما علمت من التأكيد، وأيضا في صرف الخبر إلى الثاني فصل للنصارى عن اليهود ، وتفرقة بين أهل الكتاب؛ لأنه حينئذ عطف على قوله سبحانه: ( والصابئون ) قطعا، نعم، لو صح أن المنافقين واليهود أوغل المعدودين في الضلال، والصابئين والنصارى أسهل حسن تعاطفهما، وجعل المذكور خبرا عنهما، وترك كلمة التحقيق المذكورة في الأولين دليلا على هذا المعنى، وقيل: إن ( الصابئون ) عطف على محل ( إن ) واسمها، وقد أجازه بعضهم مطلقا، وبعضهم منعه مطلقا، وفصل آخرون فقالوا: يمتنع قبل مضي الخبر، ويجوز بعده.

وذهب الفراء إلى أنه إن خفي إعراب الاسم جاز لزوال الكراهة اللفظية، نحو: إنك وزيد ذاهبان، وإلا امتنع، والمانع عند الجمهور لزوم توارد عاملين وهما ( إن ) والابتداء، أو المبتدأ على معمول واحد وهو الخبر، ولهذا ضعفوا هذا القول في الآية، وبنوا على مذهب الكوفيين ، وكون خبر المعطوف فيها محذوفا - وحينئذ لا يلزم التوارد - ليس بشيء؛ لأن الجملة حينئذ تكون معطوفة على الجملة، ولم يكن ذلك من العطف على المحل في شيء، ومن قال: إن خبر ( إن ) مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها لم يلزم عليه حديث التوارد.

ونقل عن الكسائي: إن العطف على الضمير في ( هادوا ) وخطأه الزجاج بأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل، وبأنه لو عطف على الفاعل لكان التقدير ( وهاد الصابئون ) فيقتضي أنهم هود، وليس كذلك، ولعل الكسائي يرى صحة العطف من غير فاصل، فلا يرد عليه الاعتراض الأول، وقيل: ( إن ) بمعنى نعم الجوابية، ولا عمل لها حينئذ، فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء، والمرفوع معطوف عليه، وضعفه أبو حيان بأن ثبوت ( إن ) بمعنى ( نعم ) فيه خلا بين النحويين.

وعلى تقدير ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها، تكون تصديقا له، ولا يجيء أول الكلام، والجواب بأن ثمة سؤالا مقدرا بعيد ركيك، وقيل: إن الصابئين عطف على الصلة بحذف الصدر، أي الذين هم الصابئون، ولا يخفى [ ص: 203 ] بعده، وإن عد أحسن الوجوه.

وقيل: إنه منصوب بفتحة مقدرة على الواو، والعطف حينئذ مما لا خفاء فيه، واعترض بأن لغة بلحارث وغيرهم - الذين جعلوا المثنى دائما بالألف، نحو رأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، وأعربوه بحركات مقدرة - إنما هي في المثنى خاصة، ولم ينقل نحو ذلك عنهم في الجمع، خلافا لما يقتضيه عبارة أبي البقاء، والمسألة مما لا يجري فيها القياس، فلا ينبغي تخريج القرآن العظيم على ذلك.

وقرأ أبي، وكذا ابن كثير ( والصابئين ) وهو الظاهر، ( والصابيون ) بقلب الهمزة ياء على خلاف القياس، ( والصابون ) بحذفها من صبا بإبدال الهمزة ألفا، فهو كـ( رامون ) من رمى، وقرأ عبد الله : ( يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ).

وقوله سبحانه وتعالى: من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا

إما في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول، كما أن إفراد ما في صلته باعتبار لفظه، والجملة خبر ( إن ) أو خبر المبتدأ، وعلى كل لا بد من تقدير العائد، أي: من آمن منهم.

وإما في محل نصب على أنه بدل من اسم ( إن ) وما عطف عليه، أو ما عطف عليه فقط، وهو بدل بعض، ولا بد فيه من الضمير كما تقرر في العربية، فيقدر أيضا، وقوله تعالى: فلا خوف إلخ، خبر، والفاء كما في قوله - عز وجل -: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم الآية، والمعنى - كما قال غير واحد على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المؤمنين بألسنتهم، وهم المنافقون - من أحدث من هؤلاء الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق - لا كما يزعمه أهل الكتاب - فإنه بمعزل عن ذلك، وعمل عملا صالحا حسبما يقتضيه الإيمان ( فلا خوف عليهم ) حين يخاف الكافر العقاب ( ولا هم يحزنون ) حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب، والمراد بيان انتفاء الأمرين لا انتفاء دوامهما على ما مرت الإشارة إليه غير مرة.

وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المتدينين بدين النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مخلصين كانوا أو منافقين فالمراد بـ( من آمن ) من اتصف منهم بالإيمان الخالص بما ذكر على الإطلاق، سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام كما في المخلصين أو بطريق الإحداث والإنشاء كما هو حال من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف، وليس هناك الجمع بين الحقيقة والمجاز - كما لا يخفى - لأن الثبات على الإيمان والإحداث فردان من مطلق الإيمان، إلا أن في هذا الوجه ضم المخلصين إلى الكفرة وفيه إخلال بتكريمهم، وربما يقال: إن فائدة ذلك المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام، وتمام الكلام قد مر في آية البقرة، فليراجع.

التالي السابق


الخدمات العلمية