صفحة جزء
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم، وجعله بعضهم متعلقا بما افتتح الله تعالى به السورة، وهو قوله سبحانه: أوفوا بالعقود ولا يخفى بعده.

والمراد بالميثاق المأخوذ العهد المؤكد الذي أخذه أنبياؤهم عليهم في الإيمان بمحمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - واتباعه فيما يأتي ويذر، أو في التوحيد، وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة.

وأرسلنا إليهم رسلا ذوي عدد كثير، وأولي شأن خطير يعرفونهم ذلك ويتعهدونهم بالعظة والتذكير، ويطلعونهم على ما يأتون ويذرون في دينهم كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم أي بما لا تميل إليه من [ ص: 204 ] الشرائع، ومشاق التكاليف، والتعبير بذلك دون ( بما تكرهه أنفسهم ) للمبالغة في ذمهم، وكلمة كلما - كما قال أبو حيان -: منصوبة على الظرفية؛ لإضافتها إلى ما المصدرية الظرفية وليست كلمة شرط، وقد أطلق ذلك عليها الفقهاء وأهل المعقول، ووجه ذلك السفاقسي بأن تسميتها شرطا لاقتضائها جوابا كالشرط الغير الجازم، فهي مثل ( إذا ) ولا بعد فيه، وجوابها - كما قيل - قوله تعالى فريقا كذبوا وفريقا يقتلون .

وقيل: الجواب محذوف، دل عليه المذكور، وقدره ابن المنير استكبروا؛ لظهور ذلك في قوله تعالى: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا إلخ، والبعض ناصبوه؛ لأنه أدخل في التوبيخ على ما قابلوا به مجيء الرسول الهادي لهم، وأنسب بما وقع في التفصيل مستقبحا غاية الاستقباح، وهو القتل - على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى - فإن الاستكبار إنما يفضي إليه بواسطة المناصبة.

وأما في الآية الأخرى فقد قصد إلى استقباح الاستكبار؛ نظرا إليه في نفسه لاقتضاء المقام، وادعى بعضهم أن في الإتيان بالفاء في آية الاستكبار إشارة إلى اعتبار الواسطة، كأنه قيل: ( استكبرتم فناصبتم ففريقا ) إلخ، وفيه نظر، والجملة حينئذ استئناف لبيان الجواب.

وجعل الزمخشري هذا القول متعينا؛ لأن الكلام تفصيل لحكم أفراد جمع الرسل الواقع قبل، أي: كلما جاءهم رسول من الرسل، والمذكور بقوله سبحانه: فريقا كذبوا إلخ، يقتضي أن الجائي في كل مرة فريقان، فبينهما تدافع، وعلى تقدير قطع النظر عن هذا لا يحسن في مثل هذا المقام تقدير المفعول، مثل: إن أكرمت أخي، أخاك أكرمت؛ لأنه يشعر بالاختصاص المستلزم للجزم بوقوع أصل الفعل مع النزاع في المفعول، وتعليقه بالشرط يشعر بالشك في أصل الفعل، ولأن تقديم المفعول - على ما قيل: - يوجب الفاء، إما لجعله الفعل بعيدا عن المؤثر فيحوجه إلى رابط، وإما لأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة الاسمية المفتقرة إلى الفاء، وقيل: فيه مانع آخر؛ لأن المعنى على أنهم كلما جاءهم رسول وقع أحد الأمرين لا كلاهما، فلو كان جوابا لكان الظاهر أو بدل الواو، ومن جعل الجملة جوابا لم ينظر إلى هذه الموانع.

قال بعض المحققين:

أما الأول فلأنه لقصد التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق، وقيل: المراد بالرسول جنسه الصادق بالكثير، ويؤيده ( كلما ) الدالة على الكثرة.

وأما الثاني فلأنه لا يقتضي قواعد العربية مثله، وما ذكر من الوجوه أوهام لا يلتفت إليها، ولا يوجد مثله في كتب النحو، ومنه يعلم دفع الأخير.

وتعقب ذلك مولانا شهاب الدين بأنه عجيب من المتبحر الغفلة عن مثل هذا، وقد قال في شرح التسهيل: ( ويجوز أن ينطلق خيرا يصب ) خلافا للفراء، فقال شراحه: أجاز سيبويه والكسائي تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه، وأنشد الكسائي :


وللخير أيام فمن يصطبر لها ويعرف لها أيامها الخير يعقب



تقديره ( يعقب الخير ) ومنع ذلك الفراء مع بقاء الجزم، وقال: بل يجب الرفع على التقديم والتأخير، أو على إضمار الفاء، وتأول البيت بأن الخير صفة للأيام، كأنه قال: أيامها الصالحة.

واختار ابن مالك هذا المذهب في بعض كتبه، ولما رأى الزمخشري اشتراك المانع بين الشرط الجازم وما في معناه مال إليه، خصوصا وقوة المعنى تقتضيه، فهو الحق، انتهى.

والجملة الشرطية صفة ( رسول ) والرابط محذوف، أي: رسول منهم، وإلى هذا ذهب جمهور المعربين.

واختار مولانا شيخ الإسلام أن الجملة الشرطية مستأنفة، وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل، كأنه قيل: فماذا فعلوا بالرسل؟ فقيل: كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم [ ص: 205 ] المنهمكة في الغي والفساد من الأحكام الحقة والشرائع عصوه وعادوه، واعترض - رحمه الله تعالى - على ما ذهب إليه الجمهور من القول بالوصفية بأنه لا يساعده المقام؛ لأن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم، ويجعل عنوانا للموصوف وتتمة له، ولذا وجب أن تكون معلومة الانتساب له، ومن هنا قالوا: إن الصفات قبل العلم بها أخبار، والأخبار بعد العلم بها أوصاف، ولا ريب في أن ما سيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من الرسل عرضة للقتل والتكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكده، لا بيان أنه أرسل إليهم رسلا موصوفين بكون كل منهم كذلك، كما هو مقتضى جعلها صفة، انتهى.

وتعقبه الشهاب بأنه تخيل لا طائل تحته، فإن قوله سبحانه: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل إلخ، مسوق لبيان جناياتهم والنعي عليهم بذلك، كما اعترف به المعترض، وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة التي هي مرمى النظر، كما في سائر القيود، وأما كونها معلومة فلا ضير فيه، فإنك إذا وبخت شخصا، وقلت له: فعلت كيت وكيت وهو أعلم بما فعل لا يضر ذلك في تقريعه وتعييره، بل هو أقوى كما لا يخفى على الخبير بأساليب الكلام، فلا تلتفت إلى مثل هذه الأوهام، انتهى.

ولا يخفى ما في قوله: ( وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة إلخ ) من المنع الظاهر، وكذا جعل ما نحن فيه نظير قولك لشخص تريد توبيخه: فعلت كيت وكيت - وهو أعلم بما فعل - فيه خفاء، والذى يحكم به الإنصاف بعد التأمل جواز الأمرين، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى، فتأمل وأنصف.

والتعبير بـ( يقتلون ) مع أن الظاهر ( قتلوا ) كـ( كذبوا ) لاستحضار الحال الماضية من أسلافهم للتعجيب منها، ولم يقصد ذلك في التكذيب لمزيد الاهتمام بالقتل، وفي ذلك أيضا رعاية الفواصل، وعلل بعضهم التعبير بصيغة المضارع فيه بالتنبيه على أن ذلك ديدنهم المستمر، فهم بعد يحومون حول قتل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - واقتصر البعض على قصد حكاية الحال لقرينة ضمائر الغيبة، وتقديم ( فريقا ) في الوضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر.

التالي السابق


الخدمات العلمية