صفحة جزء
[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المائدة لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود وأكدت بالقسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم وإما لكل أحد يصلح له إيذانا بأن حالهم مما لا يخفى على أحد من الناس، والوجدان متعد لاثنين أولهما أشد وثانيهما اليهود وما عطف عليه كما قال أبو البقاء، واختار السمين العكس لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر، ومحط الفائدة هو الخبر ولا ضير في التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وهو هنا واضح إذ المقصود بيان كون الطائفتين أشد الناس عداوة للمؤمنين لا كون أشدهم عداوة لهم الطائفتين المذكورتين فليفهم، و (عداوة) تمييز واللام الداخلة على الموصولة متعلقة بها مقوية لعملها، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء لأنها مبنية عليه كرهبة عقابك وجوز أبو البقاء والسمين تعلقها بمحذوف وقع صفة لها أي عداوة كائنة للذين آمنوا، والظاهر أن المراد من اليهود العموم لمن كان بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة وغيرهم ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله " وفي لفظ " إلا حدث نفسه بقتله " وقيل : المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد، وكما اختلف في عموم اليهود اختلف في عموم الذين أشركوا، والمراد من الناس كما قال أبو حيان : الكفار، أي: لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء، ووصفهم سبحانه بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء عليهم السلام والاجتراء على تكذيبهم ومناصبتهم، وقد قيل : إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا إيذانا بتقدمهم عليهم في الحرص وقيل : التقديم لكون الكلام في تعديد قبائحهم، ولعل التعبير "بالذين أشركوا" دون المشركين مع أنه أخصر للمبالغة بالذم، وقيل: ليكون على نمط (الذين آمنوا) والتعبير به دون المؤمنين لأنه أظهر في علية ما في حيز الصلة وأعيد الموصول مع صلته في قوله تعالى: ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا ، وما لزيادة التوضيح والبيان والتعبير بقوله سبحانه وتعالى: الذين قالوا إنا نصارى دون النصارى إشعارا بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله تعالى وأوداء أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام

وقال ابن المنير : لم يقل سبحانه "النصارى " كما قال جل شأنه "اليهود" تعريضا بصلابة الأولين في الكفر والامتناع عن الانقياد لأن اليهود لما قيل لهم : ادخلوا الأرض المقدسة قالوا: (اذهب أنت وربك فقاتلا) والنصارى لما قيل [ ص: 3 ] لهم من أنصاري إلى الله قالوا: نحن أنصار الله وكذلك أيضا ورد في أول السورة في قوله عز وجل ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به لكن ذكر ههنا تنبيها على انقيادهم وأنهم لم يكافحوا الأمر بالرد مكافحة اليهود ، وذكر هناك تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق والله تعالى أعلم بأسرار كلامه، والعدول كما قال شيخ الإسلام عن جعل ما فيه التفاوت بين الفريقين شيئا واحدا قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخرا : ولتجدن أضعفهم مودة إلخ أو بأن يقال أولا : لتجدن أبعد الناس مودة، للإيذان بكمال تباين ما بين الفريقين من التفاوت ببيان أن أحدهما في أقصى مراتب النقيضين والآخر في أقرب مراتب النقيض الآخر، والكلام في مفعولي لتجدن وتعلق اللام كالذي سبق، والمراد من النصارى على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير وعطاء والسدي النجاشي وأصحابه

وعن مجاهد أنهم الذين جاءوا مع جعفر رضي الله تعالى عنه مسلمين وهم سبعون رجلا اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرى الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وتمام وقثم ودريد وأيمن والظاهر العموم على طراز ما تقدم ذلك أي كونهم أقرب مودة للذين آمنوا بأن منهم أي بسبب أن منهم قسيسين وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشيء إذا تتبعه بالليل سموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب ، وقيل : القس مثلث الفاء تتبع الشيء وطلبه ومنه سمي عالم النصارى قسا بالفتح وقسيسا لتتبعه العلم وقيل: قص الأثر وقسه بمعنى، وقال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم وقد تكلمت به العرب وأجروه مجرى سائر كلماتهم، وقالوا في المصدر قسوسة وقسيسية وفي الجمع قسوس وقسيسون وقساوسة كمهالبة وكان الأصل قساسة إلا أنه كثرت السينات فأبدلوا إحداهن واوا وفي مجمع البيان نقلا عن بعضهم أن النصارى ضيعت الإنجيل وأدخلوا فيه ما ليس منه وبقي من علمائهم واحد على الحق والاستقامة يقال له قسيسا فما كان على هديه ودينه فهو قسيس، ورهبانا جمع راهب كراكب وركبان وفارس وفرسان ومصدره الرهبنة والرهبانية، وقيل : إنه يطلق على الواحد والجمع وأنشد فيه قول من قال :

لو عاينت رهبان دير في قلل لأقبل الرهبان يعدو ونزل

وجمع الرهبان واحدا كما في القاموس رهابين ورهابنة ورهبانون والترهب التعبد في صومعة وأصله من الرهبة المخافة وأطلق الفيروزابادي والجوهري: التعبد ولم يقيداه بالصومعة وفي الحديث " لا رهبانية في الإسلام " والمراد بها كما قال الراغب : الغلو في تحمل التعبد في فرط الخوف، وفي النهاية هي من رهبنة النصارى ، وأصلها من الرهبة الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب فنفاها النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ونهى المسلمين عنها، وهي منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف والرهبنة فعلنة أو فعللة على تقدير أصالة النون وزيادتها، والتنكير في رهبانا لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها [ ص: 4 ] في القسيسين أيضا إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفراد كثيرة لجنس بخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها وإلا فمن اليهود أيضا قوم مهتدون لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود

وأنهم لا يستكبرون 28 عطف على (أن منهم) أي وبأنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم يتواضعون، ولا يتكبرون كاليهود ، وهذه الخصلة على ما قيل شاملة لجميع أفراد الجنس، فسببيتها لأقربيتهم مودة للمؤمنين واضحة، وفي الآية دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودة أينما كانت.

التالي السابق


الخدمات العلمية