صفحة جزء
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن استئناف مسوق لتعيين ما هو المراد بما تقدم، وقيل : شروع في توبيخهم ببذل النصح لهم والأول أظهر. والرؤية عرفانية، وقيل : بصرية، والمراد في أسفارهم وليس بشيء. وهي على التقديرين تستدعي مفعولا واحدا، و(كم) استفهامية كانت أو خبرية معلقة لها عن العمل مفيدة للتكثير سادة مع ما في حيزها مسد مفعولها. وهي منصوبة بـ (أهلكنا) على المفعولية. وهي عبارة [ ص: 94 ] عن الأشخاص، وقيل : إن الرؤية علمية تستدعي مفعولين والجملة سادة مسدها و (من قرن) مميز لـ (كم) على أنه عبارة عن أهل عصر من الأعصار سموا بذلك لاقترانهم مدة من الزمان فهو من قرنت. واختلف في مقدار تلك المدة فقيل: مائة وعشرون سنة، وقيل : مائة، وقيل : ثمانون، وقيل: سبعون، وقيل : سنون، وقيل : ثلاثون، وقيل : عشرون، وقيل : مقدار الأوسط في أعمار أهل كل زمان. ولما كان هذا لا ضابط له يضبط قال الزجاج : إنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في العلم على ما جرت به عادة الله تعالى. ويحتمل أن يعتبر مائة سنة لما ورد أن الله تعالى قيض لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها

وقيل : هي عبارة عن مدة من الزمان اختلف فيها على طرز ما تقدم. واختار بعضهم أنه حقيقة في الزمان المعين وفي أهله. والمراد به هنا الأهل من غير تجشم تقدير مضاف أو ارتكاب تجوز

وجوز بعضهم انتصاب (كم) على المصدرية بـ (أهلكنا) بمعنى (إهلاك) أو على الظرفية بمعنى (أزمنة) ، وهو تكلف، و (من) الأولى ابتدائية متعلقة بـ (أهلكنا) وهمزة الإنكار لتقرير الرؤية، والمعنى ألم يعرف هؤلاء المكذبون المستهزءون بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كم أمة أهلكنا من قبل خلقهم أو من قبل زمانهم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأضرابهم، فالكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وقوله تعالى : مكناهم في الأرض استئناف بياني كأنه قيل: ما كان حالهم، وقال أبو البقاء : إنه في موضع جر صفة (قرن) لأن الجمل بعد النكرات صفات لاحتياجها إلى التخصيص، وجمع الضمير باعتبار معناه، وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بأن تنوينه التفخيمي مغن له عن استدعاء الصفة على أن مع اقتضائه أن يكون مضمونه ومضمون ما عطف عليه من الجمل الأربع مفروغا عنه غير مقصود لسياق النظم مؤد إلى اختلال النظم الكريم كيف لا والمعنى حينئذ: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا لهم بذنوبهم وأنه بين الفساد، انتهى. ولا يخفى أن التنوين التفخيمي لا يأبى الوصف، وما ورد فيه ذلك من النكرات أكثر من أن يحصى، وأما ما ذكره بعد فقد قال الشهاب : إنه غفلة منه أو تغافل عن تفسيرهم فأهلكناهم إلخ الآتي بقولهم: لم يغن ذلك عنهم شيئا، وتمكين الشيء في الأرض على ما قيل جعله قارا فيها ولما لزم ذلك جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة: مكنه في الأرض، ومنه قوله تعالى : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وأخرى مكن له في الأرض، ومنه قوله تعالى : إنا مكنا له في الأرض حتى أجري كل منهما مجرى الآخر ومنه قوله تعالى : ما لم نمكن لكم بعدما تقدم كأنه قيل في الأول : (مكنا لهم) وفي الثاني: (ما لم نمكنكم)

وفي التاج إن مكنته ومكنت له مثل نصحته ونصحت له. وقال أبو علي : اللام زائدة مثل (ردف لكم) وكلام الراغب في مفرداته يؤيده. وذكر بعض المحققين أن مكنه أبلغ من مكن له. ولذلك خص المتقدم بالمتقدمين والمتأخر بالمتأخرين و (ما) إما موصولة صفة لمحذوف تقديره التمكين الذي نمكنه لكم أو نكرة موصوفة أي تمكينا لم نمكنه. وعليهما فهي مفعول مطلق والعائد إليها من الصلة أو الصفة محذوف، وقيل : إنها مفعول به لأن المراد من التمكين الإعطاء كما يشير إليه ما روي عن قتادة أي أعطيناهم ما تمكنوا به من أنواع التصرف ما لم نعطكم. وقيل : إنها مصدرية ظرفية أي مدة عدم تمكينكم ولا يخفى بعده. والخطاب [ ص: 95 ] للكفرة. وقيل : لجميع الناس. وقيل : للمؤمنين، والظاهر الأول. والالتفات لما في مواجهتهم بضعف حالهم من التبكيت ما لا يخفى، وقيل : ليتضح مرجع الضميرين ولا يشتبه من أول الأمر، وهي نكتة من الالتفات لم يعرج عليها أهل المعاني

وأرسلنا السماء أي المطر كما روي عن هارون التيمي ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا. وقيل : السحاب واستعمالها في ذلك مجاز مرسل. وقيل : هي على حقيقتها بمعنى المظلة والمجاز في إسناد الإرسال إليها لأن المرسل ماء المطر وهي مبدأ له. وفيه من المبالغة ما لا يخفى. والإرسال والإنزال -كما في البحر- متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من "رسل" اللبن وهو ما ينزل من الضرع متتابعا عليهم مدرارا أي غزيرا كثير الصب، وهو صيغة مبالغة يستوي في المذكر والمؤنث وهو حال من السماء والظرف متعلق بـأرسلنا وجعلنا الأنهار أي صيرناها تجري من تحتهم أي من تحت مساكنهم. والمراد أنهم عاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار. والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا ولم يقل سبحانه : أجرينا الأنهار كما قال عز شأنه : وأرسلنا السماء للإيذان بكونها مسخرة مستمرة الجريان لا لأن النهر لا يكون إلا جاريا فلا يفيد الكلام لأن النظم حينئذ ناظر إلى كونه من تحتهم فالفائدة ظاهرة، ولو كان ما ذكر صحيحا لما ورد في النظم الكريم كقوله تعالى : (تجري من تحتها الأنهار) واستظهر كون الجعل بمعنى الإنشاء والإيجاد وهو مخصوص به تعالى فلذا غير الأسلوب. وعليه فالجملة في موضع الحال من المفعول وليس المراد -على ما قيل- بتعداد هاتيك النعم العظام الفائضة عليهم بعد ذكر تمكينهم بيان عظم جنايتهم في كفرانها واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات، بل بيان حيازتهم لجميع أسباب نيل المآرب ومبادئ الأمن من المكاره والمعاطب وعدم إغناء ذلك عنهم شيئا وينبئ عن عدم الإغناء عند جمهور المفسرين

قوله تعالى : فأهلكناهم بذنوبهم والفاء للتعقيب، وقيل : فصيحة، والمراد: فكفروا فأهلكناهم، ورجح الأول، والباء للسببية أي أهلكنا كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب كتكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام، و (أنشأنا) أي أوجدنا من بعدهم أي بعد إهلاكهم بسبب ذلك قرنا آخرين

6

- بدلا من الهالكين، وهذا بيان لأنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخلي بلاده منهم فإنه جل جلاله قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم البلاد فهو كالتتميم لما قبله نحو قوله تعالى : ولا يخاف عقباها وفيه إشارة إلى أنهم قلعوا من أصلهم ولم يبق أحد من نسلهم لجعلهم آخرين وكونهم من بعدهم،

التالي السابق


الخدمات العلمية