صفحة جزء
ولقد استهزئ برسل من قبلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه كالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل وأضرابهم أي أنك لست أول رسول استهزأ به قومه فكم وكم من رسول جليل الشأن فعل معه ذلك فالتنوين للتفخيم والتكثير، و (من) ابتداء متعلقة بمحذوف وقع صفة لـ (رسل) والكلام على حذف مضاف، وفي تصدير الجملة بالقسم وحرف التحقيق من الاعتناء ما لا يخفى. وكون التسلية بهذا المقدار مما خفي على بعض الفضلاء وهو ظاهر، ولك أن تقول : إن التسلية به وبما بعده من قوله تعالى : فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون

1

- لأنه متضمن أن من استهزأ بالرسل عوقب فكأنه سبحانه وتعالى وعده صلى الله تعالى عليه وسلم بعقوبة من استهزأ به عليه السلام إن أصر على ذلك

(وحاق) بمعنى أحاط كما روي عن الضحاك واختاره الزجاج، وفسره الفراء بعاد عليه وبال أمره، وقيل : حل واختاره الطبرسي، وقيل : نزل وهو قريب من سابقه ومعناه يدور على الإحاطة والشمول ولا يكاد يستعمل [ ص: 102 ] إلا في السر كما قال : فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم وحاق بهم من بأس ضربة حائق وقال الراغب : أصله "حق" فأبدل من أحد حرفي التضعيف حرف علة كتظننت وتظنيت أو هو مثل ذمة وذامة، والمعروف في اللغة ما اختاره الزجاج

وقال الأزهري : جعل أبو إسحاق (حاق) بمعنى أحاط وكأنه جعل مادته من الحوق بالضم وهو ما أحاط بالكمرة من حروفها. وقد يفتح كما في القاموس وجعل أحد معاني الحوق بالفتح الإحاطة؛ وفيه أيضا حاق به يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا بفتح الياء أحاط به كأحاق وفيه السيف حاك وبهم الأمر لزمهم ووجب عليهم ونزل، وأحاق الله تعالى بهم مكرهم، والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله. وظاهره أن حاق يائي وعليه غالب أهل اللغة وهو مخالف لظاهر كلام الأزهري من أنه واوي. و (منهم) متعلق بـ (سخروا) والضمير المرسل. ويقال : سخروا منه وبه كهزأ منه وبه فهما متحدان معنى واستعمالا. وقيل : السخرية والاستهزاء بمعنى لكن الأول قد يتعدى بمن والباء. وفي الدر المصون لا يقال إلا استهزأ به ولا يتعدى بمن. وجوز أبو البقاء أن يكون الضمير للمستهزئين والجار والمجرور حينئذ متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير الفاعل في (سخروا) ورد بأن المعنى حينئذ فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين ولا فائدة لهذه الحال لانفهامها من سخروا وأجيب بأن هذا مبني على أن الاستهزاء والسخرية بمعنى وليس بلازم فلعل من جعل الضمير للمستهزئين يجعل الاستهزاء بمعنى طلب الهزء فيصح بيانه ولا يكون في النظم تكرار. فعن الراغب الاستهزاء وارتياد الهزء وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزء كالاستجابة في كونها ارتيادا للإجابة وإن كان قد يجري مجرى الإجابة

وجوز رجوع الضمير إلى أمم الرسل ونسب إلى الحوفي. ورده أبو حيان بأنه يلزم إرجاع الضمير إلى غير مذكور. وأجيب عنه بأنه في قوة المذكور. و (بالذين) متعلق بحاق وتقديمه على فاعله وهو (ما) للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم. وهي إما مصدرية، وضمير به للرسول الذي في ضمن الرسل. وإما موصولة والضمير لها والكلام على حذف مضاف أي فأحاط بهم وبال استهزائهم أو وبال الذي كانوا يستهزؤن به. وقد يقال : لا حاجة إلى تقدير مضاف، وفي الكلام إطلاق السبب على المسبب لأن المحيط بهم هو العذاب ونحوه لا الاستهزاء ولا المستهزأ به لكن وضع ذلك موضعه مبالغة

وقيل :أن المراد من الذي كانوا يستهزؤن هو العذاب الذي كان الرسل يخوفونهم إياه فلا حاجة إلى ارتكاب التجوز السابق أو الحذف. وقد اختار ذلك الإمام الواحدي. والاعتراض عليه بأنه لا قرينة على أن المراد بالمستهزإ به هو العذاب بل السياق دليل على أن المستهزأ بهم الرسل عليهم الصلاة والسلام يدفعه أن الاستهزاء بالرسل عليهم الصلاة والسلام مستلزم لاستهزائهم بما جاءوا به وتوعدوا قومهم بنزوله وإن مثله لظهوره لا يحتاج إلى قرينة

ومن الناس من زعم أن (حاق بهم) كناية عن إهلاكهم وإسناده إلى ما أسند إليه مجاز عقلي من قبيل: أقدمني بلدك حق لي على فلان إذ من المعلوم من مذهب أهل الحق أن المهلك ليس إلا الله تعالى فإسناده إلى غيره لا يكون إلا مجازا. وأنت تعلم أن الحيق الإحاطة ونسبتها إلى العذاب لا شبهة في أنها حقيقة ولا داعي إلى تفسيره بالإهلاك وارتكاب المجاز العقلي، ولعل مراد من فسر بذلك بيان مؤدى الكلام ومجموع معناه. نعم [ ص: 103 ] إذا قلنا : أن الإحاطة إنما تكون للأجسام دون المعاني فلا بد من ارتكاب تجوز في الكلام على تقدير إسنادها إلى العذاب لكن لا على الوجه الذي ذكره هذا الزعم كما لا يخفى. وفي جمع (كانوا يستهزؤن) ما مر غير مرة في أمثاله. و (به) متعلق بما بعده. وتقديمه لرعاية الفواصل

التالي السابق


الخدمات العلمية