صفحة جزء
قل أي شيء أكبر شهادة روى الكلبي أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد أما وجد الله تعالى رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت

وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري بن عمرو فقالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا إله إلا الله تعالى بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو فأنزل الله تعالى هذه الآية " والأول أوفق بأول الآية والثاني بآخرها

فـ (أي) مبتدأ و (أكبر) خبره و (شهادة) تمييز. والشيء في اللغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فقد ذكره سيبويه في الباب المترجم بباب مجاري أواخر الكلم، وإنما يخرج التأنيث من التذكير ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى والشيء مذكر، انتهى. وهل يطلق على الله تعالى أم لا؟ فيه خلاف فمذهب الجمهور أنه يطلق عليه سبحانه فقال : شيء لا كالأشياء واستدلوا على ذلك بالسؤال والجواب الواقعين في هذه الآية وبقوله سبحانه : كل شيء هالك إلا وجهه حيث استثنى من كل شيء الوجه وهو بمعنى الذات عندهم وبأنه أعم الألفاظ فيشمل الواجب والممكن

ونقل الإمام أن جهما أنكر صحة الإطلاق محتجا بقوله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فقال : لا يطلق عليه سبحانه إلا ما يدل على صفة من صفات الكمال والشيء ليس كذلك، وفي "المواقف" وشرحه الشيء عند الأشاعرة يطلق على الموجود فقط فكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء، ثم سيق فيهما مذاهب الناس فيه ثم قيل : والنزاع لفظي متعلق بلفظ الشيء وأنه على ماذا يطلق، والحق ما ساعد عليه اللغة والنقل إذ لا مجال للعقل في إثبات اللغات. والظاهر معنا فأهل اللغة في كل عصر يطلقون لفظ الشيء على الموجود حتى لو قيل عندهم الموجود شيء تلقوه بالقبول، ولو قيل : ليس بشيء تلقوه بالإنكار. ونحو قوله سبحانه : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ينفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم لأن الحقيقة لا يصح فيها، انتهى

وفي شرح المقاصد أن البحث في أن المعدوم شيء حقيقة أم لا لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال وقد وقع فيه اختلافات نظرا إلى الاستعمالات، فعندنا هو اسم للموجود لما نجده شائع الاستعمال في هذا المعنى ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازا ثم قال : وما نقل عن أبي العباس أنه اسم للقديم. وعن الجهمية أنه اسم للحادث، وعن هشام أنه اسم للجسم فبعيد جدا من جهة أنه لا يقبله أهل اللغة، انتهى. وفي ذلك كله بحث فإن دعوى الأشاعرة التساوي بين الشيء والموجود لغة أو الترادف كما يفهم مما تقدم من الكليتين ليس لها دليل يعول عليه. وقوله : إن أهل اللغة في كل عصر إلخ إنما يدل على أن كل موجود شيء، وأما أن كل ما يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة لغوية موجود فلا دلالة فيه عليه إذ لا يلزم من أن يطلق على الموجود لفظ شيء دون لا شيء أن يختص الشيء لغة بالموجود لجواز أن يطلق الشيء على المعدوم والموجود حقيقة لغوية [ ص: 118 ] مع اختصاص الموجود بإطلاق الشيء دون اللاشيء. وإنكار أهل اللغة على من يقول : الموجود ليس بشيء لكونه سلبا للأعم عن الأخص وهو لا يصح لكونهما مترادفين أو متساويين. وقد أطلق على المعدوم الخارجي كتابا وسنة فقد قال الله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله وقال سبحانه : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون

وأخرج الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل فقال : إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبط أجري يقول : "لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن " ونحوه عن معاذ بن جبل والأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يعدل عنها إلا إذا وجد صارف. وشيوع الاستعمال لا يصلح أن يكون صارفا بعد صحة النقل عن سيبويه ولعل سبب ذلك الشيوع أن تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاص الشيء بالموجود لغة

وقوله تعالى: وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا إنما يلزم منه نفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم وهو يضرنا لو كان المدعى تخصيص إطلاق الشيء لغة وليس كذلك. فإن التحقيق عندنا أن الشيء بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه، وهو مفهوم كلي يصدق على الموجود والمعدوم الواجب والممكن وتخصيص إطلاقه ببعض أفراده عند قيام قرينة لا ينافي شموله لجميع أفراده حقيقة لغوية عند انتفاء قرينة مخصصة وإلا لكان شموله المعدوم والموجود معا في قوله تعالى : (والله بكل شيء عليم) جمعا بين الحقيقة والمجاز وهي مسألة خلافية ولا خلاف في الاستدلال على عموم تعلق علمه تعالى بالأشياء مطلقا بهذه الآية فهو دليل على أن شموله للمعدوم والموجود معا حقيقة لغوية، وذكر بعض الأجلة بعد زعمه اختصاص الشيء بالموجود أنه في الأصل مصدر استعمل بمعنى شاء أو مشيء فإن كان بمعنى شاء صح إطلاقه عليه تعالى وإلا فلا

وأنت تعلم أنه على ما ذكرنا من التحقيق لا مانع من إطلاق الشيء عليه تعالى من غير حاجة إلى هذا التفصيل لأنه بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه فيكون إطلاق الشيء بهذا المعنى عليه عز وجل كإطلاق المعلوم مثلا، ومعنى أكبر شهادة أعظم وأصدق قل الله أمر له صلى الله عليه وسلم أن يتولى الجواب بنفسه بنفسي هو عليه الصلاة والسلام لما مر قريبا. والاسم الجليل مبتدأ محذوف الخبر أي الله أكبر شهادة وجوز العكس

ومذهب سيبويه أنه إذا كانت النكرة اسم استفهام أو أفعل تفضيل تقع مبتدأ يخبر عنه بمعرفة، وقوله سبحانه : شهيد خبر مبتدإ محذوف أي هو سبحانه شهيد بيني وبينكم فهو ابتداء كلام، وجوز أن يكون خبر (الله) والمجموع على ما ذهب إليه الزمخشري هو الجواب لدلالته على أن الله عز وجل إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له، ونقل في الكشف أنه إن جعل تمام الجواب عند قوله سبحانه : (الله) فهو للتسلق من إثبات التوحيد إلى إثبات النبوة بأن هذا الشاهد الذي لا أصدق منه شهد لي بإيحاء هذا القرآن. وإن جعل الكلام بمجموعه الجواب فهو من الأسلوب الحكيم لأن الوهم لا يذهب إلى أن هذا الشاهد يحتمل أن يكون غيره تعالى بل الكلام في أنه يشهد لنبوته أو لا فليفهم وأوحي إلي من قبله تعالى هذا القرآن العظيم الشاهد بصحة رسالتي لأنذركم به بما فيه من الوعيد. واكتفي بذكر الإنذار عن ذكر البشارة لأنه [ ص: 119 ] المناسب للمقام، وقيل : إن الكلام مع الكفار وليس فيهم من يبشر. وفي الدر المصون أن الكلام على حد سرابيل تقيكم الحر ومن بلغ عطف على ضمير المخاطبين أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة. قال ابن جرير : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم

وأخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بلغه القرآن فكأنما شافهته " واستدل بالآية على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.

واختلف في ذلك هو بطريق العبارة في الكل أو بالإجماع في غير الموجودين وفي غير المكلفين. فذهب الحنابلة إلى الأول والحنفية إلى الثاني وتحقيقه في الأصول. وعلى أن من لم يبلغه القرآن غير مؤاخذ بترك الأحكام الشرعية، ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال " أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الإسلام؟ فقالوا : لا، فخلى سبيلهم ثم قرأ وأوحي إلي الآية" وهو مبني على القول بالمفهوم كما ذهب إليه الشافعية، واعترض بأنه لا دلالة للآية على ذلك بوجه من الوجوه لأن مفهومها انتفاء الإنذار بالقرآن عمن لم يبلغه وذلك ليس عين انتفاء المؤاخذة وهو ظاهر ولا مستلزما له خصوصا عند القائلين بالحسن والقبح إلا أن يلاحظ قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وفيه أن عدم استلزام انتفاء الإنذار بالقرآن لانتفاء المؤاخذة ممنوع، والحسن والقبح العقليان قد طوي بساط ردهما، وجوز أن يكون (من) عطفا على الفاعل المستتر في أنذركم للفصل بالمفعول أي لأنذركم أنا بالقرآن وينذركم به من بلغه القرآن أيضا، وروى الطبرسي ما يقتضيه عن العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن

أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى جملة مستأنفة أو مندرجة في القول. والاستفهام للتقرير أو للإنكار، وقيل : لهما، وفيه جمع بين المعاني المجازية (وأخرى) صفة لآلهة، وصفة جمع ما لا يعقل -كما قال أبو حيان- كصفة الواحدة المؤنثة نحو مآرب أخرى (ولله تعالى الأسماء الحسنى) . ولما كانت الآلهة حجارة وخشبا مثلا أجريت هذا المجرى تحقيرا لها قل لهم لا أشهد بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صرف

قل تكرير للأمر للتأكيد، إنما هو إله واحد أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو و (ما) كافة

وجوز أبو البقاء وزعم أنه الأليق بما قبله كونها موصولة، ويبعده كونها موصولة وعليه يكون (واحد) خبرا وهو خلاف الظاهر وإنني بريء مما تشركون

91

- من الأصنام أو من إشراككم.

التالي السابق


الخدمات العلمية