صفحة جزء
(ومن عجائب الرازي ) كيف يبدي احتمال التهمة، ويروي اعتراض أهل المدينة على سيد ملوك بني أمية بذلك اللفظ الشنيع، والمحل الرفيع، فهلا خافوا، وسكتوا، وصافوا، والأعجب من هذا أنه ذكر ست حجج لإثبات الجهر هي أخفى من العدم، (الأولى) أن البسملة من السورة، فحكمها حكمها سرا وجهرا، وكون البعض سريا، والبعض جهريا مفقود، ويرده ما علمته في الردود، وبفرض تسليم أنها من السورة، أي مانع من إسرار البعض، والجهر بالبعض، وقد فعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، " فاتبعوه " ولعل السر فيه كالسر في الجهر والإخفاء في ركعات صلاة واحدة، أو يقال : إن حال المنزل عليه القرآن كان خلوة أولا، وجلوة ثانيا، ناسب حاله حاله بل إذا تأملت قوله تعالى في الحديث القدسي الثابت عند أهل الله: (كنت كنزا مخفيا) إلخ، ظهر لك سر أعظم، فرضي الله تعالى عن المجتهد الأقدم، (الثانية) أنها ثناء وتعظيم، فوجب الإعلان بها لقوله تعالى: فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ويرده أن غالب مشتملات الصلاة كذلك أفيجهر بها.

(الثالثة) إن الجهر بذكر الله يدل على الافتخار به، وعدم المبالاة بمنكره، وهو مستحسن عقلا، فيكون كذلك شرعا، ولا يخفى إلا ما فيه عيب، ثم قال: وهذه الحجة قوية في نفسي، راسخة في عقلي، لا تزول البتة، بسبب كلمات المخالفين، ويرده ما رد سابقه، وقد يخفى الشريف.


ليس الخمول بعار

على امرئ ذي جلال

    فليلة القدر تخفى


وتلك خير الليالي



وياليت شعري أكان تسبيحه الله تعالى في ركوعه وسجوده معيبا فيخفيه، أو جيدا فيجهر به ويبديه، ولا أظن بالرجل إلا خيرا، فإن الحجة قوية في نفسه راسخة في عقله (الرابعة) ما أخرجه الشافعي عن أنس أن معاوية صلى بأهل المدينة ، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض عليه المهاجرون والأنصار، فأعاد الحديث بمعناه، ويرده معارضوه، أو يقال: لم يقرأ على ظاهره، وعلموا ذلك ببعض القرائن وما راء كمن سمعا.

(الخامسة) ما روى البيهقي عن أبي هريرة : (كان رسول الله يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم)، وهو المروي عن عمر وابنه، وابن عباس ، وابن الزبير، وأما علي فقد تواتر عنه، ومن اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى، ويرده المعارض وبتقدير نفيه يقال: إن الجهر كان أحيانا لغرض، وفي الأخبار التي ذكرناها ما يعارض أيضا نسبته إلى عمر وعلي وابن عباس ، وما زعم من تواتر نسبته إلى علي ممنوع عند أهل السنة، نعم ادعته الشيعة ، فذهبوا إلى الجهر في السرية والجهرية، ولو عمل أحد بجميع ما يزعمون [ ص: 47 ] تواتره عن الأمير كفر، فليس إلا الإيمان ببعض والكفر ببعض، وما ذكره من أن من اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى مسلم، لكن إن سلم لنا خبر ما كان عليه علي رضي الله تعالى عنه، ودونه مهامه، فيحمل على أن الشائع عند أهل السنة تقديم ما عليه الشيخان، وإذا اختلفا فما عليه الصديق، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم ترقى في التخصيص إليه، فقال أولا: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم)، وثانيا: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي)، وثالثا: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ورابعا: (إن لم تجديني فأتي أبا بكر ).

(السادسة) أنها متعلقة بفعل مضمر نحو: بإعانة بسم الله اشرعوا، ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، وينبهه على أنه لا يتم شيء من الخيرات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر الله تعالى، وبإظهارها أمر بمعروف، ويرده مع ركاكة هذا التقدير وعدم قائل به أن انفهام الأمر بالمعروف من هذه الجملة يحتاج إلى فكر، لو صرف عشر معشاره في قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين لحصل ضعف أضعافه من دون غائلة كثيرة، فيغني عنه، ثم أنه رحمه الله تعالى ذكر كلاما لا ينفع إلا في تكثير السواد وإرهاب ضعفاء الطلبة بجيوش المداد.

(البحث الثالث في معناها) فالباء إما: للاستعانة، أو المصاحبة، أو الإلصاق، أو الاستعلاء، أو زائدة، أو قسمية، والأربعة الأخيرة ليست بشيء، وإن استؤنس لبعض ببعض الآيات، واختلف في الأرجح من الأولين، فالذي يشعر به كلام البيضاوي أرجحية الأول، وأيد بأن جعله للاستعانة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل حتى كأنه لا يتأتى ولا يوجد بدون اسم الله تعالى، ولا يخلو عن لطف، وما يدل عليه كلام الزمخشري أرجحية الثاني، وأيد بأن باء المصاحبة أكثر في الاستعمال من باء الاستعانة لا سيما في المعاني، وما يجري مجراها من الأفعال، وبأن التبرك باسم الله تعالى تأدب معه، وتعظيم له، بخلاف جعله للآلة، فإنها مبتذلة غير مقصودة بذاتها، وأن ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم كان على وجه التبرك، فينبغي أن يرد عليهم في ذلك، وأن الباء إذا حملت على المصاحبة كانت أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم الله تعالى منها إذا جعلت داخلة على الآلة، ويناسبه ما روي في الحديث: (تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم يسمي أو لم يسم)، وأن التبرك باسم الله تعالى معنى ظاهر يفهمه كل أحد، ممن يبتدئ به، والتأويل المذكور في كونه آلة لا يهتدى إليه إلا بنظر دقيق، وإن كون اسم الله تعالى آلة للفعل ليس إلا باعتبار أنه يوصل إليه ببركته، فقد رجع بالآخرة إلى معنى التبرك، فلنقل به أولا، وإن جعل اسمه تعالى آلة لقراءة الفاتحة لا يتأتى على مذهب من يقول: إن البسملة من السورة، وإن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء)، مما يستأنس به له، وإن في الأول جعل الموجود حسا كالمعدوم، وإن بسم الله موجود في القراءة، فإذا جعلت الباء للاستعانة كان سبيله سبيل القلم، فلا يكون مقروءا، وهو مقروء، وإن فيه الإيجاز والتوصل بتقليل اللفظ إلى تكثير المعنى لتقدير: متبركا، وهو لكونه حالا، فيه بيان هيئة الفاعل، وقد ثبت أن لا بد لكل فعل متقرب به إلى الله تعالى من إعانته جل شأنه، فدل الحال على زائد، وعندي أن الاستعانة أولى، بل يكاد أن تكون متعينة، إذ فيها من الأدب والاستكانة وإظهار العبودية ما ليس في دعوى المصاحبة، ولأن فيها تلميحا من أول وهلة إلى إسقاط الحول والقوة، ونفي استقلال قدر العباد، وتأثيرها، وهو استفتاح لباب الرحمة، وظفر بكنز لا حول ولا قوة إلا بالله، ولأن هذا المعنى أمس بقوله تعالى: وإياك نستعين ولأنه كالمتعين في قوله: اقرأ باسم ربك ليكون جوابا لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (لست بقارئ) على أتم وجه وأكمله، وما ذكروه في تأييد المصاحبة كله مردود، (أما الأول) فلأن دون إثبات الأكثرية خرط القتاد، (وأما الثاني) فلأنه توهم نشأ من تمثيلهم في الآلة بالمحسوسات، وليست كل استعانة بآلة ممتهنة، ولا شك في صحة استعنت بالله، وقد ورد في الشرع قال تعالى: استعينوا بالله واصبروا فهو إذن على أن جهة الابتذال مما لا تمر [ ص: 48 ] ببال، والقلب قد أحاط بجهاته جهة أخرى، وأيضا في تخصيص الاستعانة بالآلة نظر، لأنها قد تكون بها، وبالقدرة، ولو سلم فأي مانع من الإشارة بها هنا إلى أنه كما هو المقصود بالذات، فهو المقصود بالعرض، إذ لا حول ولا قوة إلا به.

(وأما الثالث) فلأن المشركين إلى الاستعانة بآلهتهم أقرب، إذ هم وسائطهم في التقرب إليه تعالى، وهي أشبه بالآلة.

(وأما الرابع) فلأن الآلة لا بد من وجودها في كل جزء إلى آخر الفعل، وإلا لم يتم، ولا نسلم اللزوم بين مصاحبة شيء لشيء، وملابسته لجميع أجزائه، وما ذكره من الحديث فهو بالاستعانة أنسب، لأنها مشعرة بتبري العبد من حوله وقوته، وإثبات الحول والقوة لله تعالى، وهذا من باب العقائد التي عقد عليها قلب كل مسلم يسمي أو لم يسم.

(وأما الخامس) فلأنه إن أراد أن معنى المصاحبة التبرك، فظاهر البطلان، وقد رجع بخفي حنين، وإن أراد أنه يفهم منها بالقرينة، فندعيه نحن بها، إذا قصد الآلية لتوقف الاعتداد الشرعي عليها، وأما كون التبرك معنى ظاهرا لكل أحد، فلا نسلم أنه من خصوص المصاحبة، (وأما السادس) فلأن الانحصار فيه ممنوع، وأما السابع فلأن ما يفتتح به الشيء لا مانع من كونه جزءا، فالفاتحة مفتتح القرآن وجزؤه، ولو سلم فجعلها مفتتحا بالنسبة إلى ما عداها، قاله الشهاب ، ولا يضر الحنفي ما فيه.

(وأما الثامن) فلأن معنى الحديث: أفعل كذا مستعينا باسم الله الذي لا يضرني مع ذكر اسمه مستعينا به شيء، إذ من استعان بجنابه أعانه، ومن لاذ ببابه حفظه، وصانه، وإن استبعدت هذا، ورددت ما قيل في الرد من أن المراد بالحديث الإخبار بأنه لا يضر مع ذكر اسمه شيء من مخلوق، والمصاحبة تستدعي أمرا حاصلا عندها، نحو: جاءكم الرسول بالحق، والقراءة لم تحصل بعد، فتعذرت حقيقة المصاحبة، بأن المصاحبة هنا ليست محسوسة، وكونها إخبارا بنفي صحبة الضرر يفهم منه صحبة النفع والبركة، وهي دفع الوسوسة عن القارئ مع جزيل الثواب، فلا ضير أيضا، لأنه مجرد استئناس، ولا يوحشنا، إذ ما نستأنس به كثير، (وأما التاسع) فلأن جعل الموجود كالمعدوم للجري لا على المقتضى من المحسنات، والنكتة هاهنا أن شبه اسم الله بناء على يقين المؤمن بما ورد من السنة والقطع بمقتضاها بالأمر المحسوس، وهو حصول الكتب بالقلم، وعدم بعدمه، ثم أخرج مخرج الاستعارة التبعية لوقوعها في الحرف.

(وأما العاشر) فلأنه لا يخفى حال التشبيه بالقلم، (وأما الحادي عشر) فلأنه لا نسلم أن التبرك معنى المصاحبة أو لازم معناه، بل هو معلوم من أمر خارج، هو أن مصاحبة اسمه سبحانه يوجد معها ذلك، وهو جار في الاستعانة باسمه عز شأنه على أن في الاستعانة من اللطف ما لا يخفى، ويمكن على بعد أن يكون عدم اختيار الزمخشري لها لنزغات الشيطان الاعتزالية من استقلال العبد بفعله، فقد ذهب إليه هو وأصحابه، وسيأتي إن شاء الله تعالى رده، وقد اختلف في متعلق الجار، فذهب الإمام ابن جرير إلى تقديره: أتلو، لأن تاليه متلو، وهكذا يضمر الخاص الفعلي كل فاعل فعلا، يجعل التسمية مبدأ له، وهو من المعاني القرآنية، كنظائره للزومها في متعارف اللسان، وبه يندفع كلام الصادقي، وليس المقصود هنا متكلما مخصوصا، فهو على حد، ولو ترى فينوي كل بالضمير نفسه، فلا يضر تقدمها على قراءة هذا القارئ، بل على وجوده، ويتأتى القول بجزئيتها من الكل أو الجزء بلا خفاء، ولما خفي ذلك على البعض جعل المقدر فعل أمر متوجه إلى العباد، ليتحد قائل الملفوظ والمقدر، واختاره الفراء عن اختيار، وروي عن ابن عباس لأنه تعالى قدم [ ص: 49 ] التسمية حثا للعباد على فعل ذلك، وهو المناسب للتعليم، وذهب النحويون إلى تقديره عاما نحو: أبتدئ وأيد بوجوه منها: أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل تسمية دون فعل القراءة، وتقدير العام أولى، ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبرا، أو صفة، أو حالا، أو صلة، بالكون والاستقرار حيثما وقع، ويؤثرونه لعموم صحة تقديره.

(ومنها) أنه مستقل بالغرض من التسمية، وهو وقوعها مبتدأ، فتقديره أوقع بالمحل، وأنت إذا قدرت: أقرأ، قدرت: أبتدئ بالقراءة، لأن الواقع في أثنائها قراءة أيضا، والبسملة غير مشروعة فيه، ومنها ظهور فعل الابتداء في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع)، وأما ظهور القراءة في قوله تعالى : اقرأ باسم ربك فلأن الأهم ثم هو القراءة غير منظور فيه إلى ابتدائها، ولذا قدم الفعل، ولا كذلك في التسمية.

وما ذهب إليه الإمام أمس وأخص بالمقصود، وأتم شمولا، فإنه يقتضي أن القراءة واقعة بكمالها، مقرونة بالتسمية، مستعانا باسم الله تعالى عليها كلها بخلاف تقدير: أبتدئ، إذ لا تعرض له لذلك، وما ذكر أولا من الاستشهاد بتقدير النحاة الكون والاستقرار فليس بجيد، لأنهم فعلوه تمثيلا، حيث لا يقصدون عاملا بعينه بل يريدون الكلام على العامل من حيث هو، فهو كتمثيلهم بزيد، وعمرو، لا لخصوصيتهما، بل ليقع الكلام على مثال، فيكون أقرب إلى الفهم، ولا يقال إذا أبهم الفاعل يقدر بهما على أن الابتداء هنا ليس أعم من القراءة، لأن المراد به ابتداء القراءة، وهو أخص من القراءة لصدقها على قراءة الأول، والوسط، والآخر، واختصاص ابتداء القراءة بالأول، فليس هذا هو الكون والاستقرار الذي قدرهما النحاة فيما تقدم، ودعوى عموم أبتدئ، باعتبار أنه منزل منزلة اللازم لكنه يعلم بقرينة المقام أن المبتدأ به هو القراءة، أو باعتبار أصل العامل في الجميع، لا يخفى فسادها، فإنه إذا دل المقام على إرادته فما معنى تنزيله منزلة اللازم حينئذ، وكونه باعتبار اللفظ والأصل لا يدفع السؤال في حال، فافهم، (وأما ما ذكر ثانيا) من أن رد فعل البداءة مستقل بالغرض فغير مسلم، وقد قدمنا أن القراءة أمس وأشمل، والوقوع في الابتداء بالبداية فعلا لا بإضمار الابتداء، فمتى ابتدأ بالبسملة حصل له المقصود غير مفتقر إلى شيء، كمن صلى فبدأ بتكبيرة الإحرام، لا يحتاج في كونه بادئا إلى الإضمار، لكنه مفتقر إلى بركتها وشمولها لجميع ما فعله، ومن هذا يظهر ما في باقي الكلام من الوهن، (وأما ما ذكر ثالثا) ففيه أن كون التسمية مبتدأ بها حاصل بالفعل لا بإضمار الفعل، ولم يرد الحديث بأن كل أمر ذي بال لم يقل أو لم يضمر فيه أبدا ببسم الله، فهو كذا على أن المحافظة على موافقة لفظ الحديث إنما يليق أن يجعل نكتة في كلام المصنفين، ومن ينخرط في سلكهم، لا في كلام الله جل شأنه، كما لا يخفى على من له طبع سليم، وأيضا البحث إنما هو في ترجيح تقدير الفعل العام، كأبدأ أو أشرع، وما شاكلهما لا في ترجيح خصوص أقرأ، أعني فعلا مصدره القراءة على خصوص أبدأ، أعني فعلا مصدره البداءة، ففيما ذكر خروج عن قانون الأدب وموضع النزاع.

وذهب البعض إلى تقدير: ابتدائي، مثلا، وفيه زيادة إضمار، لوجوب إضمار الخبر حينئذ، فيكون المضمر ثلاث كلمات، ودلالة الاسمية على الثبوت معارضة بدلالة المضارع على الاستمرار التجددي المناسب للمقام، إلا أنه تبقى المخالفة بين جملتي البسملة والحمد، ولعل الأمر فيه سهل، وجعل الشيخ الأكبر قدس سره هذا الجار خبر مبتدإ مضمر، هو ابتداء العالم، وظهوره، لأن سبب وجوده الأسماء الإلهية، وهي المسلطة عليه كجعله متعلقا بما بعده، إذ لا يحمد الله تعالى إلا بأسمائه من باب الإشارة، فلا ينظر فيه إلى الظاهر، ولا يتقيد بالقواعد، ولا أرى الاعتراض عليه من الإنصاف، وقد ذهب الكثير إلى أن تقدير المتعلق هنا مؤخرا أحرى، لأن اسم الله تعالى مقدم على الفعل ذاتا، فليقدم على الفعل [ ص: 50 ] ذكرا، وفيه إشارة إلى البرهان اللمي وهو أشرف من البرهان الأني، ولذا قال بعض العارفين: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله، وتحنيك طفل الذهن بحلاوة هذا الاسم يعين على فطامه عن رضع ضرع السوي بدون وضع مرارة الحدوث، على أن بركة التبرك طافحة بالأهمية، وإن قلنا بأن في التقديم قطع عرق الشوكة ردا على من يدعيها ناسب مقام الرسالة، وظهر سر تقديم الفعل في أول آية نزلت، إذ المقام إذ ذاك مقام نبوة، ولا رد، ولا تبليغ فيها، ولكل مقام مقال، والبلاغة: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وقد اعتركت الأفهام هنا في توجيه القصر لظنه من ذكر الاختصاص، حتى ادعاه بعضهم بأنواعه الثلاثة، وأفرد البعض البعض، فمقتصر على قصر الإفراد، وقائل به، وبالقلب، وفي القلب من كل شيء، وعندي هنا يقدر مقدما، وبه قال الأكثرون، وإن تقديره مؤخرا مؤخر عن ساحة التحقيق، لأنه إما أن يقدر بعد الباء، أو بعد اسم، أو بعد اسم الله، أو بعد البعد، أما تقديره بعد الباء فلا يقوله من عرف الباء.

وأما بعد الاسم فلاستلزامه الفصل، ولو تعقلا، حيث أوجبوا الحذف هنا بين المتضايفين، وأما بعد اسم الله فلاستلزامه الفصل كذلك بين الصفة والموصوف، وأما بين الصفتين فيتسع الخرق، وأما بعد التمام فيظهر نقص دقيق، لأن في الجملة تعليق الحكم بما يشعر بالعلية، فكان الرحمن الرحيم علة للقراءة المقيدة باسم الله، فإذا تأخر العامل المقيد المعلول وتقدمت علته، أشعر بالانحصار، ولا يظهر وجهه، وإذا قدرنا العامل مقدما كما هو الأصل أمنا من المحذور، ويحصل اختصاص أيضا، إذ كأنه قيل مثلا: أقرأ مستعينا، أو متبركا بسم الله الرحمن الرحيم، لأنه الرحمن الرحيم، وانتفاء العلة يستلزم انتفاء المعلول في المقام الخطابي، إذا لم تظهر علة أخرى، فيفيد الاختصاص لا سيما عند القائل بمفهوم الصفة، فيشعر بأن من لم يتصف بذلك خارج عن الدائرة، والاقتصار هنا ليس كالاقتصار هناك، والتخلص بتقدير التركيب: مستعينا باسم الله، لأنه الرحمن الرحيم أقرأ فيه ما لا يخفى على الطبع السليم، وفي تقديم الحادث تعقلا، وحذفه ذكرا، وعدم وجود شيء في الظاهر مستقلا سوى الاسم القديم رمز خفي إلى تقديم الأعيان الثابتة في العلم، وإن لم يكن على وجود الله تعالى، إذ له جل شأنه التقدم المطلق، وعدم ظهور شيء سواه، وكل شيء هالك إلا وجهه، وللإشارة إلى أنه لا ضرر في ذلك ارتكب، والتبرك كالوجوب يقتضي التقدم بالذكر مكسورا، لا مضموما، وها هو كما ترى، ومن الأكابر من قال: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله تعالى فيه، ولا حلول، وقد عد أكمل من الأول، والمراتب أربع، وتحنيك الرحمة يغني عن كل در، ويفطم طفل الذهن عن ثدي جواري الفكر، وكأن من قدر العامل مؤخرا رأى بسم الله مجراها ، (وباسمك ربي وضعت جنبي)، وأمثالهما، فجرى مجراها، والفرق ظاهر للناظر، وهذا من نسائم الأسحار فتيقظ له، ونم عن غيره.

والظرف مستقر عند بعض، ولغو عند آخرين، وقد اختلف في تفسيرهما، فقيل: اللغو ما يكون عامله مذكورا، والمستقر ما يكون عامله محذوفا مطلقا، وقيل: المستقر ما يكون عامله عاما كالحصول، والاستقرار، وهو مقدر، واللغو بخلافه، وقيل: اللغو ما يكون عامله خارجا عن الظرف غير مفهوم منه، سواء ذكر أو لا، والمستقر ما فهم منه معنى عامله المقدر الذي هو من الأفعال العامة، وكل ذلك اصطلاح، وحيث لا مشاحة فيه، أختار الأول، فيكون الظرف هنا مستقرا، كيفما قدر العامل، وإنما كسرت الباء وحق الحروف المفردة أن تفتح لأنها مبنية، والأصل في البناء لثقله، وكونه مقابلا للإعراب الوجودي السكون لخفته، وكونه عدميا، إلا أنها من حيث كونها كلمات برأسها مظنة للابتداء، وهو بالساكن متعذر أو متعسر، كان حقها الفتح إذ هو أخو السكون في الخفة المطلوبة في كثير الدور على الألسنة لامتيازها من بين الحروف بلزوم الحرفية، والجر، وكل منهما يناسب الكسر، أما الحرفية فلأنها تقتضي عدم الحركة [ ص: 51 ] والكسر لقلته، إذ لا يوجد في الفعل، ولا في غير المنصرف، ولا في الحروف إلا نادرا، يناسب العدم، وأما الجر، فلموافقة حركة الباء أثرها، ولا نقض بواو العطف اللازمة للحرفية، ولا بكاف التشبيه اللازمة للجر، لأن المجموع سبب الامتياز، ولم يوجد في كل، لكن يبقى النقض واو القسم وتائه، ويجاب بأن عملها بالنيابة عن الباء التي هي الأصل في حروفه، فكأن الجر ليس أثرا لهما، وهذه علل نحوية مستخرجة بعد الوقوع لإبداء مناسبة، فلا تتحمل مناقشة لضعفها كما قيل :


عهد الذي أهوى وميثاقه     أضعف من حجة نحوي

فلا نسهر جفن الفكر فيما لها وعليها، وقال بعضهم من باب الإشارة : كسرت الباء في البسملة تعليما للتوصل إلى الله تعالى والتعلق بأسمائه بكسر الجناب والخضوع وذل العبودية، فلا يتوصل إلى نوع من أنواع المعرفة إلا بنوع من أنواع الذل، والكسر، كما أشار إلى ذلك سيدي عمر بن الفارض قدس الله تعالى سره الفائض بقوله :


ولو كنت لي من نقطة الباء خفضة     رفعت إلى ما لم تنله بحيلة
بحيث ترى أن لا ترى ما عددته     وأن الذي أعددته غير عدة

فإن الخفض يقابل الرفع، فمن خفضه النظر إلى ذل العبودية، رفعه القدر إلى مشاهدة عز الربوبية، ولا ينال هذا الرفع بحيلة، بل هو بمحض الموهبة الإلهية الجليلة، ومن تنزل ليرتفع، فتنزله معلول، وسعيه غير مقبول، انتهى.

وهو أمر مخصوص بباء البسملة، لا يمكن أن يجري في باء الجر مطلقا، كما لا يخفى، وعندي في سر ذلك أن الباء هي المرتبة الثانية بالنسبة إلى الألف البسيطة المجردة المتقدمة على سائر المراتب، فهي إشارة إلى الوجود الحق، والباء إما إشارة إلى صفاته التي أظهرتها نقطة الكون، ولذلك لما قيل للعارف الشبلي : أنت الشبلي؟ فقال: أنا النقطة تحت الباء، وقال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره :


الباء للعارف الشبلي معتبر     وفي نقيطتها للقلب مدكر
سر العبودية العلياء مازجها     لذاك ناب مناب الحق فاعتبروا
أليس يحذف من بسم حقيقته     لأنه بدل منه فذا وزر

والصفات إما جمالية أو جلالية، وللأولى السبق كما يشير إليه حديث: (سبقت رحمتي غضبي)، وباء الجر إشارة إليها، لأنها الواسطة في الإضافة، والإفاضة، فناسبها الكسر وخفض الجناح ليتم الأمر ويظهر السر، وفي الابتداء بها هنا تعجيل للبشارة، ورمز إلى أن المدار هو الرحمة كما قال صلى الله عليه وسلم : (لن يدخل أحدكم الجنة عمله، قيل: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وقد تدرج سبحانه وتعالى بإظهارها، فرمز بالباء وأشار بالله، وصرح أتم تصريح بالرحمن الرحيم، وأما إشارة إلى الحقيقة المحمدية، والتعين الأول المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم : (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر وبواسطته حصلت الإفاضة، كما يشير إليه: لولاك ما خلقت الأفلاك، ولكون الغالب عليه، عليه الصلاة والسلام صفة الرحمة لا سيما على مؤمني الأمة كما يشير إليه قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقوله تعالى : بالمؤمنين رءوف رحيم ناسب ظهور الكسر فيما يشير إلى مرتبته، وفي الابتداء به هنا رمز إلى صفة من أنزل عليه الكتاب والداعي إلى الله، وفي ذلك مع بيان صفة المدعو إليه بأنه الرحمن الرحيم تشويق تام، وترغيب عظيم، وقد تدرج أيضا جل شأنه في وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك في القرآن إلى أن قال سبحانه: وإنك لعلى خلق عظيم واكتفى بالرمز ههنا لعدم ظهور الآثار بعد، وأول الغيث قطر، ثم ينهمل، وما من سورة إلا افتتحها [ ص: 52 ] الرب بالرمز إلى حاله صلى الله تعالى عليه وسلم تعظيما له، وبشارة لمن ألقى السمع وهو شهيد، ولما كان الجلال في سورة براءة ظاهرا، ترك الإشارة بالبسملة، وأتى بباء مفتوحة لتغير الحال، وإرخاء الستر على عرائس الجمال، ولم يترك سبحانه وتعالى الرمز بالكلية إلى الحقيقة المحمدية، ولا يسعنا الإفصاح بأكثر من هذا في هذا الباب خوفا من قال أرباب الحجاب، وخلفه سر جليل، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

والاسم عند البصريين من الأسماء العشرة التي بنيت أوائلها على السكون، وهي: ابن، وابنة، وابنم، واسم، واست، واثنان، واثنتان، وامرؤ، وامرأة، وايمن الله، وايم الله منه، وإلا فأحد عشر إن اعتد بابنم، فإذا نطقوا بها زادوا همزة لبشاعة الابتداء بالساكن غير المدات عندهم، وفيها يمتنع، والأمر ذوقي، وهو مما حذف عجزه، كيد، وما عدا الثلاثة الأخيرة مما تقدم.

وأصله سمو، حذفت الواو تخفيفا لكثرة الاستعمال، ولتعاقب الحركات، وسكن السين وحرك الميم، واجتلبت ألف الوصل فوزنه افع، وتصريفه إلى أسماء، وسمي وسميت دون أوسام ووسيم، ووسمت يشهد له، والجرح بالقلب لا يقبل، واشتقاقه من السمو، كالعلو، لأنه لدلالته على مسماه يعليه من حضيض الخفاء إلى ذروة الظهور والجلاء.

وقال الكوفيون: هو من السمة، لأنه علامة على مسماه، وأصله وسم، فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل، وكفى الله المؤمنين القتال، فوزنه اعل، ويرد عليهم أن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره، وزيادة الإعلال أقيس من عدم النظير، وأيضا كونها عوضا يقتضي كونها مقصودة لذاتها ووصلا كونها مقصودة تبعا، والعوض كجزء أصل دون الوصل، فما هو إلا جمع بين الضب والنون، فلذا قيل: لا حذف ولا تعويض وإنما قلبت الواو همزة كإعاء وإشاح، ثم كثر استعماله فجعلت همزته همزة وصل، وقد تقطع للضرورة، ورجح الأول لهاتيك الشهادة، وفيه لغات أوصلها البعض إلى ثماني عشرة، ونظمها فقال :


للاسم عشر لغات مع ثمانية     بنقل جدي شيخ الناس أكملها
سم سمات سما واسم وزد سمة     كذا سماء بتثليث لأولها

هذا، وقد طال التشاجر في أن الاسم هل هو عين المسمى أو غيره؟ فالأشاعرة على الأول، والمعتزلة على الثاني، وقد تحير نحارير الفضلاء في تحرير محل البحث على وجه يكون حريا بهذا التشاجر، حتى قال مولانا الفخر في التفسير الكبير : إن هذا البحث يجري مجرى العبث، وذكر وجها ادعى لطفه ودقته، وقد كفانا الشهاب مؤنة رده، وقد أراد السيد النحرير في شرح المواقف، فلم يتم له، وللسهيلي في ذلك كلام ادعى أنه الحق [ ص: 53 ] وصنف في رده ابن السيد رسالة مستقلة وادعى الشهاب أنه إلى الآن لم يتحرر، وأنه لم ير مع سعة اطلاعه في هذه المسألة ما فيه ثلج الصدور ولا شفاء الغليل، ولم يأت رحمه الله تعالى في حواشيه على البيضاوي من قبل نفسه بشيء يزيح الإشكال، ويريح البال، وها أنا من فضل الله تعالى ذاكر شيئا إذا قبل فهو غاية ما أتمناه، وقد يوجد في الإسقاط ما لا يوجد في الإسقاط، وإن رد فقد رد قبلي كلام ألوف كل منهم فرد يقابل بصفوف.


وابن اللبون إذا ما لز في قرن     لم يستطع صولة البزل القناعيس



التالي السابق


الخدمات العلمية