صفحة جزء
[ ص: 194 ] وإذ قال إبراهيم نصب -عند بعض المحققين- على أنه مفعول به لفعل مضمر خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم معطوف على قل أندعو لا على (أقيموا) لفساد المعنى أي واذكر يا محمد لهؤلاء الكفار بعد أن أنكرت عليهم عبادة مالا يقدر على نفع ولا ضر وحققت أن الهدى هو هدى الله تعالى وما يتبعه من شؤونه تعالى وقت قول إبراهيم عليه السلام الذي يدعون أنهم على ملته موبخا لأبيه آزر على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكتهم وينادي بفساد طريقتهم. وآزر بزنة آدم علم أعجمي لأبي إبراهيم عليه السلام وكان من قرية من سواد الكوفة، وهو بدل من (إبراهيم) أو عطف بيان عليه، وقال الزجاج : ليس بين النسابين اختلاف في أن اسم أبي إبراهيم عليه السلام تارح بتاء مثناة فوقية وألف بعدها راء مهملة مفتوحة وحاء مهملة، ويروى بالخاء المعجمة. وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج أن اسمه تيرح أو تارح

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اسم أبي إبراهيم عليه الصلاة السلام يازر واسم أمه مثلى. وإلى كون آزر ليس اسما له ذهب مجاهد وسعيد بن المسيب وغيرهما. واختلف الذاهبون إلى ذلك فمنهم من قال : إن آزر لقب لأبيه عليه السلام، ومنهم من قال : اسم جده، ومنهم من قال : اسم عمه، والعم والجد يسميان أبا مجازا، ومنهم من قال : هو اسم صنم، وروي ذلك عن ابن عباس والسدي ومجاهد رضي الله تعالى عنهم. ومنهم من قال : هو وصف في لغتهم ومعناه المخطئ، وعن سليمان التيمي قال : بلغني أن معناه الأعوج، وعن بعضهم أنه الشيخ الهرم بالخوارزمية. وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الأعلام الأعجمية، وقيل الأولى أن يقال : إنه غلب عليه فألحق بالعلم. وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الإثم. ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل، وعلى القول بأنه بمعنى الصنم يكون الكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي عابد آزر

وقرأ يعقوب (آزر) بالضم على النداء. واستدل بذلك على العلمية بناء على أنه لا يحذف النداء إلا من الأعلام وحذفه من الصفات شاذ أي يا آزر أتتخذ أصناما آلهة أي أتجعلها لنفسك ءالهة على توجيه الإنكار إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما يراد صيغة الجنس باعتبار الوقوع. وقرئ (أأزرا) بهمزتين الأولى استفهامية مفتوحة والثانية مفتوحة ومكسورة، وهي إما أصلية أو مبدلة من الواو. ومن قرأ بذلك قرأ (تتخذ) بإسقاط الهمزة. وهو مفعول به لفعل محذوف أي أتعبد آزرا؟ على أنه اسم صنم ويكون (تتخذ) إلخ بيانا لذلك وتقريرا وهو داخل تحت الإنكار، أو مفعول له على أنه بمعنى القوة أي ألأجل القوة تتخذ أصناما ءالهة؟ والكلام إنكار لتعززه بها على طريقة قوله تعالى : أيبتغون عندهم العزة وجوز أن يكون حالا أو مفعولا ثانيا لـ (تتخذ)

وأعرب بعضهم (آزر) على قراءة الجمهور على أنه مفعول لمحذوف وهو بمعنى الصنم أيضا أي أتعبدون آزر؟ وجعل قوله سبحانه (أتتخذ) إلخ تفسيرا وتقريرا بمعنى أنه قرينة على الحذف لا بمعنى التفسير المصطلح عليه في باب الاشتغال لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها؛ وما لا يعمل لا يفسر عاملا كما تقرر عندهم. والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام وادعوا أنه ليس في آباء النبي صلى الله عليه وسلم كافر [ ص: 195 ] أصلا لقوله عليه الصلاة والسلام: " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات والمشركون نجس ". وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه، والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب

وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا، والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشئ من قلة التتبع، وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم عليه السلام. وجاء إطلاق الأب على العم في قوله تعالى: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا

وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال : الخال والد والعم والد وتلا هذه الآية، وفي الخبر " ردوا علي أبي العباس " وأيد بعضهم دعوى أن أبا إبراهيم عليه السلام الحقيقي لم يكن كافرا وإنما الكافر عمه بما أخرجه ابن المنذر في تفسيره بسند صحيح عن سليمان بن صرد، قال : لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم عليه السلام في النار جعلوا يجمعون الحطب حتى إن كانت العجوز لتجمع الحطب فلما تحقق ذلك قال : حسبي الله تعالى ونعم الوكيل، فلما ألقوه قال الله تعالى: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكانت، فقال عمه: من أجلي دفع عنه فأرسل الله تعالى عليه شرارة من النار فوقعت على قدمه فأحرقته

وبما أخرج عن محمد بن كعب وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم: أن إبراهيم عليه السلام لم يزل يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدو لله فلم يستغفر له، ثم هاجر بعد موته وواقعة النار إلى الشام، ثم دخل مصر واتفق له مع الجبار ما اتفق ثم رجع إلى الشام ومعه هاجر ثم أمره الله تعالى أن ينقلها وولدها إسماعيل إلى مكة فنقلها، ودعا هناك فقال : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم إلى قوله: ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ، فإنه يستنبط من ذلك أن المذكور في القرءان بالكفر هو عمه، حيث صرح في الأثر الأول أن الذي هلك قبل الهجرة هو عمه، ودل الأثر الثاني على أن الاستغفار لوالديه كان بعد هلاك أبيه بمدة مديدة فلو كان الهالك هو أبوه الحقيقي لم يصح منه عليه السلام هذا الاستغفار له أصلا، فالذي يظهر أن الهالك هو العم الكافر المعبر عنه بالأب مجازا وذلك لم يستغفر له بعد الموت، وإن المستغفر له إنما هو الأب الحقيقي وليس بآزر، وكان في التعبير بالوالد في آية الاستغفار وبالأب في غيرها إشارة إلى المغايرة

ومن الناس من احتج أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام بأن هذه دالة على أنه عليه السلام شافهه بالغلظة والجفاء لقوله تعالى : إني أراك وقومك أي الذين يتبعونك في عباداتها في ضلال عظيم عن الحق مبين

47

- أي ظاهر لا اشتباه فيه أصلا، ومشافهة الأب بالجفاء لا يجوز لما فيه من الإيذاء، وآية التأفيف بفحواها تعم سائر أنواع الإيذاءات كعمومها للأب الكافر والمسلم، وأيضا أن الله تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه والقول اللين له رعاية لحق التربية وهي في الوالد أتم، وأيضا الدعوة بالرفق أكثر تأثيرا فإن الخشونة توجب النفرة فلا تليق من غير إبراهيم عليه السلام مع الأجانب فكيف تليق منه مع أبيه وهو الأواه الحليم، وأجيب بأن هذا ليس من الإيذاء المحرم في شيء وليس مقتضى المقام إلا ذاك، ولا نسلم أن الداعي لأمر موسى عليه السلام باللين مع فرعون مجرد رعاية حق التربية، وقد يقسو [ ص: 196 ] الإنسان أحيانا على شخص لمنفعته كما قال أبو تمام : فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم وقال أبو العلاء المعري :

اضرب وليدك وادلله على رشد ولا تقل هو طفل غير محتلم     فرب شق برأس جر منفعة
وقس على شق رأس السهم والقلم

وقال أبو خفاجة الأندلسي :

نبه وليدك من صباه بزجره     فلربما أغفى هناك ذكاؤه
وانهره حتى تستهل دموعه     في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه
فالسيف لا يذكو بكفك ناره     حتى يسيل بصفحتيه ماؤه

وكون الرفق أكثر تأثيرا غير مسلم على الإطلاق فإن المقامات متفاوتة كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام تارة : وجادلهم بالتي هي أحسن وأخرى واغلظ عليهم نعم لو ادعي أن ما ذكر مؤيد لكون آزر ليس أبا حقيقيا لإبراهيم عليه السلام لربما قبل، وحيث ادعي أنه حجة على ذلك فلا يقبل فتدبر، والرؤية إما علمية والظرف مفعولها الثاني، وإما بصرية فهو حال من المفعول، والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ، ومنشأ ضلال عبدة الأصنام على ما يفهم من كلام أبي معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض كتبه اعتقاد أن الله تعالى جسم؛ فقد نقل عنه الإمام أنه قال : إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه سبحانه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصور، وللملائكة أيضا صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون بالسماوات عندهم فلا جرم اتخذوا صورا وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرواء والهيكل وجعلوا الأحسن هيكل الإله وما دونه هيكل الملك وواظبوا على عبادة ذلك قاصدين الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة. وذكر الإمام نفسه في أصل عبادة الأصنام أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب فزعموا ارتباط السعادة والنحوسة بكيفية وقوعها في الطوالع. ثم غلب على ظن أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية؛ فبالغوا في تعظيم الكواكب. ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذاتها، ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر إلا أنهم قالوا : إنها مع ذلك هي المدبرة لأحوال العالم. وعلى كلا التقديرين اشتغلوا بعبادتها ولما رأوها قد تغيب عن الأبصار اتخذوا لكل كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه بزعمهم وأقبلوا على عبادته وغرضهم من ذلك عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها. ولهذا أقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدلة على أن الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم كما قال سبحانه: ألا له الخلق والأمر بعد أن بين أن الكواكب مسخرة. وعلى أنها لو قدر صدور فعل منها وتأثير في هذا العالم لا تخلو عن دلائل الحدوث وكونها مخلوقة فيكون الاشتغال بعبادة الفرع دون عبادة الأصل ضلالا محضا. ويرشد إلى أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكر أنه سبحانه بعد أن حكى توبيخ إبراهيم عليه السلام لأبيه على اتخاذها؛ أقام الدليل على أن الكواكب والقمر لا يصلح شيء منها للإلهية. وأنا أقول : لعل هذا سبب في عبادة الأصنام أولا. [ ص: 197 ] وأما سبب عبادة العرب لها فغير ذلك. قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي - وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام- خرج من مكة إلى الشام في بعض أسفاره فلما قدم أرض البلقاء وبها يومئذ العمالقة أولاد عملاق ويقال عمليق بن ود بن سام بن نوح عليه السلام رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم : ما هذه التي أراكم تعبدون؟ فقالوا : هذه الأصنام نعبدها ونستمطر بها فتمطرنا ونستنصر بها فتنصرنا فقال لهم : ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته. وقال ابن إسحق : يزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام وذلك أنه كان يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى خلفهم الخلف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الأوثان فصاروا على ما كانت الأمم قبلهم من الضلالات وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية