صفحة جزء
وكذلك نري إبراهيم هذه الإراءة من الرؤية البصرية المستعارة استعارة لغوية للمعرفة من إطلاق السبب على المسبب أي عرفناه وبصرناه. وكان الظاهر (أرينا) بصيغة الماضي إلا أنه عدل إلى صيغة المستقبل حكاية للحال الماضية استحضارا لصورتها حتى كأنها حاضرة مشاهدة، وقيل : إن التعبير بالمستقبل لأن متعلق الإراءة لا يتناهى وجه دلالته فلا يمكن الوقوف على ذلك إلا بالتدريج وليس بشيء. والإشارة إلى مصدر نري لا إلى إراءة أخرى مفهومة من قوله تعالى: إني أراك ولا إلى ما أنذر به أباه وضلل قومه من المعرفة والبصارة، وجوز كل، وقيل : يجوز أن يجعل المشبه التبصير من حيث أنه واقع والمشبه به التبصير من حيث أنه مدلول اللفظ، ونظيره وصف النسبة بالمطابقة للواقع وهي عين الواقع، وجوز كون الكاف بمعنى اللام، والإشارة إلى القول السابق، وأنت تعلم ما هو الأجزل والأولى مما تقدم لك في نظائره وليس هو إلا الأول أي ذلك التبصير البديع نبصره عليه السلام ملكوت السماوات والأرض أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما لا تبصيرا آخر أدنى منه، فالملكوت مصدر كالرغبوت والرحموت كما قاله ابن مالك وغيره من أهل اللغة، وتاؤه زائدة للمبالغة؛ ولهذا فسر بالملك العظيم والسلطان القاهر، وهو -كما قال الراغب - مختص به تعالى خلافا لبعضهم. وعن مجاهد أن المراد بالملكوت الآيات، وقيل : العجائب التي في السموات والأرض فإنه عليه السلام فرجت له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر فذهب يدعو عليه فأوحى الله تعالى إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدع على عبادي فإنهم مني على ثلاث: إما أن يتوب العاصي فأتوب عليه، وإما أن أخرج من صلبه نسمة تملأ الأرض بالتسبيح، وإما أن أقبضه إلي فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت ". وروي نحوه موقوفا ومرفوعا من طرق شتى ولا خلاف فيها لدلائل المعقول خلافا لمن توهمه، وقيل : ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والأشجار والبحار

[ ص: 198 ] وهذه الأقوال على ما قيل تقتضي أن تكون الإراءة بصرية إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها؛ بل اطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شؤونه عز وجل، ولا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حسا كما ينبئ عنه التشبيه السابق

وقرئ (تري) بالتاء وإسناد الفعل إلى الملكوت أي تبصره عليه السلام دلائل الربوبية وليكون من الموقنين

75

- أي من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى، وهذا لا يقتضي سبق الشك كما لا يخفى، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر، والجملة اعتراض مقرر لما قبلها أي وليكون كذلك فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور. والحصر باعتبار أن هذا الكون هو المقصود الأصلي من ذلك التبصير ونحو إرشاد الخلق وإلزام الكفار من مستتبعاته، وبعضهم لم يلاحظ ذلك فقدر الفعل مقدما لعدم انحصار العلة فيما ذكر

وقيل : هي متعلقة بالفعل السابق، والجملة معطوفة على علة مقدرة ينسحب عليها الكلام أي ليستدل وليكون. واعترض بأن الاستدلال مع قطع النظر عن كونه سببا للالتفات لا يكون علة للإراءة فكيف يعطف عليه بإعادة اللام وليس بشيء، وادعى بعضهم أنه ينبغي على ذلك أن يراد بملكوت السموات والأرض بدائعهما وآياتهما لأن الاستدلال من غايات إراءتها لا من غاية إراءة نفس الربوبية. وأنت تعلم أن رؤية الربوبية إنما هي برؤية دلائلها وآثارها. ومن الناس من جوز كون الواو زائدة واللام متعلقة بما قيل وفيه بعد، وإن ذكروه وجها كالأولين في كل ما جاء في القرآن من هذا القبيل

التالي السابق


الخدمات العلمية