صفحة جزء
وإذا جاءتهم آية رجوع إلى بيان حال مجرمي أهل مكة بعد ما بين بطريق التسلية حال غيرهم فإن العظيمة المنقولة إنما صدرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي وإذا جاءتهم آية بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام .

قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله قال شيخ الإسلام : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل عليه السلام فيخبرنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام صادق كما قالوا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا وعن الحسن البصري مثله وهذا كما ترى صريح في أن ماعلق بإيتاء ما أوتي الرسل عليهم السلام هو إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه إيمانا حقيقيا كما هو المتبادر منه عند الإطلاق خلا أنه يستدعي أن يحمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وأن يصرف الرسالة في قوله سبحانه : الله أعلم حيث يجعل رسالته عن ظاهرها وتحمل على رسالة جبريل عليه السلام بالوجه المذكور ويراد بجعلها تبليغها إلى المرسل إليه لا وضعها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتى كونه جوابا عن اقتراحهم وردا له بأن كون معنى الاقتراح لن نؤمن بكون تلك الآية نازلة من عند الله تعالى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يأتينا جبريل بالذات عيانا كما يأتي الرسل فيخبرنا بذلك ومعنى الرد الله أعلم بمن يليق بإرسال جبريل عليه السلام إليه لأمر من الأمور إيذانا بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريف وفيه من التمحل ما لا يخفى .

وأنت تعلم أنه لا تمحل في حمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي بل في العدول عن قول لن نؤمن حتى نجعل رسلا مثلا إلى ما في النظم الكريم نوع تأييد لهذا الحمل نعم صرف الرسالة عن ظاهرها وحمل الجعل على التبليغ لا يخلو عن بعد ولعل الأمر فيه سهل ويفهم من كلام البعض أن مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وإن لم يستدع تلك الرسالة إلا أنه قريب من منصبها فيصلح ما ذكر جوابا بدون حاجة إلى الصرف والحمل المذكورين وفيه ما فيه وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل حين قال : زاحمنا بني مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا حتى يأتينا وحي [ ص: 21 ] كما يأتيه وقال الضحاك : سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله سبحانه : بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة قال الشيخ : ولا يخفى أن كل واحد من هذين القولين وإن كان مناسبا للرد المذكور لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المعلق بإيتاء مثل ما أوتي الرسل مجرد تصديقهم برسالته صلى الله عليه وسلم في الجملة من غير شمول لكافة الناس وأن يكون كلمة حتى في قول اللعين حتى يأتينا وحي كما يأتيه .. إلخ . غاية لعدم الرضى لا لعدم الاتباع فإنه مقرر على تقديري إتيان الوحي وعدمه فالمعنى لن نؤمن برسالته أصلا حتى نؤتى نحن النبوة مثل ما أوتي رسل الله أو إيتاء مثل إيتاء رسل الله ولا يخفى أنه يجوز أن تكون في كلام اللعين غاية أيضا على أن المراد به مجرد الموافقة وفعل مثل ما يفعله صلى الله عليه وسلم من توحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام لا قفو الأثر بالائتمار على أن اللعين إنما طلب إتيان وحي كما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك نصا في طلب الاستقلال المنافي للاتباع .

ولعل مراده عليه اللعنة المشاركة في الشرف بحيث لا ينحط عنه عليه الصلاة والسلام بالكلية ويمكن أن يدعي أيضا أن هؤلاء الكفرة لكون كل منهم أبا جهل بما يقتضيه منصب الرسالة لا يأبون كون الرسولين يجوز أن يبعث أحدهما إلى الآخر ويلزم أحدهما امتثال أمر الآخر واتباعه وإنكان مشاركا له في أصل الرسالة فليفهم وقيل : إن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا وولدا فنزلت هذه الآية وتعقبه الشيخ قدس سره أنه لا تعلق له بكلامهم المردود إلا أن يراد بالإيمان المعلق بما ذكر مجرد الإيمان بكون الآية النازلة وحيا صادقا لا الإيمان بكونها نازلة إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آية نازلة إلى الرسول قالوا : لن نؤمن بنزولها من عند الله حتى يكون نزولها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن ملخص معنى قوله : لو كانت النبوة حقا .. إلخ . لو كان ماتدعيه من النبوة حقا لكنت أنا النبي لا أنت وإذا لم يكن الأمر كذلك فليست بحق ومآله تعليق الإيمان بحقية النبوة بكون نفسه نبيا .

وأنت تعلم أن إطلاق النبوة وقولهم رسل الله ليس بينهما كمال الملاءمة بحسب الظاهر كما لا يخفى فالحق سقوط هذا القول عن درجة الاعتبار وإن روي مثله عن ابني جريج لما في تطبيقه على ما في الآية من مزيد العناية .

و مثل ما أوتي نصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي حتى نؤتاهاإيتاء مثل إيتاء رسل الله وإضافة الإيتاء إليهم منكرون لإيتائه عليه الصلاة والسلام وحيث مفعول لفعل مقدر أي يعلم وقد خرجت عن الظرفية بناء على القول بتصرفها ولا عبرة بمن أنكره والجملة بعدها كما نص عليه أبو علي في كتاب الشعر صفة لها وإضافتها إلى ما بعدها حيث استعملت ظرفا وقال الرضي : الأولى أن حيث مضافة ولا مانع من إضافتها وهي اسم إلى الجملة وبحث فيه ولا يجوز فيها هنا عند الكثير أن تكون مجرورة بالإضافة لأن أفعل بعض ما يضاف إليه ولا منصوبة بأفعل نصب الظرف لأن علمه تعالى غير مقيد بالظرف وممن نص على ذلك ابن الصائغ وجوز بعضهم الثاني ورد ما علل به المنع منه بأن يجوز جعل تقييد علمه تعالى بالظرف مجازيا باعتبار ما تعلق به بل ذلك أولى من إخراج حيث عن الظرفية فإنه إما نادر أو ممتنع .

وجملة الله أعلم .. إلخ . استئناف بياني والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال وتعاضد الأسباب والعدد وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله تعالى بمحض الكرم والجود على من [ ص: 22 ] كمل استعداده ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الإيجاب الذي يقوله الفلاسفة لأنه سبحانه إن شاء أعطى ذلك وإن شاء أمسك وإن استعد المحل وما في المواقف من أنه لا يشترط في الإرسال الاستعداد الذاتي بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء محمول على الاستعداد الذاتي الموجب فقد جرت عادة الله تعالى أن يبعث من كل قوم أشرفهم وأطهرهم جبلة وتمام البحث في موضعه .

وقرأ أكثر السبعة ( رسالاته ) بالجمع وعن بعضهم أنه يسن الوقف على رسل الله وأنه يستجاب الدعاء بين الآيتين ولم أر في ذلك ما يعول عليه سيصيب الذين أجرموا استئناف آخر ناع عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعد ما نعى عليهم حرمانهم مما أملوه والسين للتأكيد ووضع الموصول موضع الضمير لمزيد التشنيع وقيل : إشعارا بعلية مضمون الصلة أي يصيبهم البتة مكان ما تمنوه وعلقوا به أطماعهم الفارغة من عز النبوة وشرف الرسالة صغار أي ذل عظيم وهوان بعد كبرهم عند الله يوم القيامة .

وقيل : من عند الله وعليه أكثر المفسرين كما قال الفراء واعترضه بأنه لا يجوز في العربية أن تقول جئت عند زيد وأنت تريد من عند زيد وقيل : المراد أن ذلك في ضمانه سبحانه أو ذخيرة لهم عنده وهو جار مجرى التهكم كما لا يخفى وعذاب شديد في الآخرة أو في الدنيا بما كانوا يمكرون (124) أي بسبب مكرهم المستمر أو بمقابلته وحيث كان هذا من أعظم مواد إجرامهم صرح بسببه فمن يرد الله أن يهديه أي يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان وقالت المعتزلة المراد بهديه إلى الثواب أو إلى الجنة أو يثيبه على الهدى أو يزيده ذلك يشرح صدره للإسلام فيتسع له وينفسح وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم حين قيل له : كيف الشرح يا رسول الله فقال : نور يقذف في الصدر فينشرح له وينفسح فقيل : هل لذلك من آية يعرف بها يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت .

ومن يرد أن يضله أي يخلق فيه الضلالة لسوء اختياره وقيل : المراد يضله عن الثواب أو عن الجنة أو عن زيادة الإيمان أو يخذله ويخلي بينه وبين ما يريده يجعل صدره ضيقا حرجا بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد يكون فيه للخير منفذ وقرأ ابن كثير ضيقا بالتخفيف ونافع وأبو بكر عن عاصم ( حرجا ) بكسر الراء أي شديد الضيق والباقون بفتحها وصفا بالمصدر للمبالغة وأصل معنى الحرج كما قال الراغب مجتمع الشيء ومنه قيل للضيق حرج وقال بعض المحققين : أصل معناه شدة الضيق فإن الحرجة غيضة أشجارها ملتفة بحيث يصعب دخولها .

وأخرج ابن حميد وابن جرير وغيرهما عن أبي الصلت الثقفي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ ( حرجا ) بفتح الراء وقرأ بعض ما عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرجا بكسرها فقال عمر : أبغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيا وليكن مدلجيا فأتوه به فقال له عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم قال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء فقال عمر رضي الله تعالى عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير كأنما يصعد في السماء استئناف أو حال من ضمير الوصف أو وصف آخر والمراد المبالغة في ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة [ ص: 23 ] الاستطاعة وفيه تنبيه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود والامتناع في ذلك عادي وعن الزجاج معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه وأصل يصعد يتصعد وقد قرئ به فأدغمت التاء في الصاد .

وقرأ ابن كثير ( يصعد ) وأبو بكر عن عاصم ( يصاعد ) وأصله أيضا يتصاعد ففعل به ما تقدم .

كذلك إشارة إلى الجعل المذكور بعده على ما مر تحقيقه أو إشارة إلى الجعل السابق أي مثل ذلك الجعل أي جعل الصدر حرجا على الوجه المذكور يجعل الله الرجس أي العذاب أو الخذلان .

وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال : الرجس ما لا خير فيه وقال الراغب : الرجس الشيء القذر وقال الزجاج : هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة وأصله على ما قيل من الارتجاس وهو الاضطراب على الذين لا يؤمنون (125) أي عليهم ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل وهذا أي ما جاء به القرآن كما روي عن ابن مسعود أو الإسلام كما روي عن ابن عباس أو ما سبق من التوفيق والخذلان كما قيل صراط ربك أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته وطريقته التي اقتضتها حكمته ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطب من اللطف مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ أو عادلا مطردا وهو إما حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل هذا أبوك عطوفا أو مؤسسة والعامل فيها معنى الإشارة أو ها التي للتنبيه قد فصلنا الآيات بيناها مفصلة لقوم يذكرون (126) أي يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كل الحوادث بقضائه سبحانه وقدره وأنه جل شأنه حكيم عادل في جميع أفعاله وتخصيص هؤلاء القوم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك التفصيل لهم أي لهؤلاء القوم دار السلام أي الجنة كما قال قتادة والسلام هو الله تعالى كما قال الحسن وابن زيد والسدي وإضافة الدار إليه سبحانه للتشريف وقال الزجاج والجبائي : ( السلام ) بمعنى السلامة أي دار السلامة من الآفات والبلايا وسائر المكاره التي يتلقاها أهل النار وقيل هو بمعنى التسليم أي دار تحيتهم فيها سلام عند ربهم أي في ضمانه وتكفله التفضلي أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنه ذلك غيره والجملة مستأنفة وقيل صفة لقوم وهو وليهم أي محبهم أو ناصرهم بما كانوا يعملون (127) أي بسبب أعمالهم الصالحة أو متوليهم بجزائها بأن يتولى إيصال الثواب إليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية