صفحة جزء
ويوم يحشرهم جميعا نصب على الظرفية والعامل فيه مقدر أي اذكر أو تقول أو كان ما لا يذكر لفظاعته وجوز أن يكون مفعولا به لمقدر أيضا أي اذكر ذلك اليوم والضمير المنصوب لمن يحشر من الثقلين وقيل : للكفار وقرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب ( يحشر ) بالياء والباقون بنون العظمة على الالتفات لتهويل الأمر .

وقوله سبحانه : يا معشر الجن على إضمار القول والمعشر الجماعة أمرهم واحد وقال الطبرسي : الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العشرة لأنها تمام العقد والمراد بالجن أو بمعشرهم على ما قيل الشياطين وذكر بعض الفضلاء أن الجن يقال على وجهين أحدهما للروحانيين المستترين عن الحواس كلها فيدخل فيهم الملائكة والشياطين وثانيهما للروحانيين مما عدا الملائكة وقال آخرون : إن الروحانيين ثلاثة أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين وأوساط فيهم أخيار وأشرار وأياما كان فالمقصود بالنداء الأشرار الذين يغوون الناس فإنهم أهل الخطاب بقوله سبحانه : قد استكثرتم من الإنس أي أكثرتم من إغوائهم وإضلالهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد والزجاج فالكلام على حذف مضاف أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كما يقال : استكثر الأمير من الجنود وهذا بطريق التوبيخ والتقريع .

قيل : وإنما ذكر المعشر في جانب الجن دون جانب الإنس لما أن الإغواء كثيرا ما يقتضي التظاهر والتعاون وفي المعشر نوع إيماء إليه ولا كذلك الغوى وقال أولياؤهم أي الذين أطاعوهم واتبعوهم من الإنس أي الذين هم من الإنس أو كائنين منهم فمن إما لبيان الجنس أو متعلقة بمحذوف وقع حالا من أولياء ربنا استمتع بعضنا ببعض أي انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها [ ص: 26 ] والجن بالإنس حيث اتخذوهم قادة ورؤساء واتبعوا أمرهم فأدخلوا عليهم السرور بذلك .

وعن الحسن وابن جريج والزجاج وغيرهم أن استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا إذا سافر أحدهم وخاف الجن قال : أعوذ بسيد هذا الوادي واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم قادرون على إعاذتهم وإجارتهم .

وعن محمد بن كعب أن المراد باستمتاع بعضهم ببعض طاعة بعضهم بعضا وموافقته لهم وقال البلخي يحتمل أن يكون الاستمتاع مقصورا على الإنس فيكون الإنس قد استمتع بعضهم ببعض الجن دون الجن .

وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وهو يوم القيامة على ماقاله غير واحد وعن الحسن والسدي وابن جريج أنه الموت والأول أولى وإنما قال الأولياء ما قالوا اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتكذيب البعث وإظهارا للندامة عليها وتحسرا على حالهم واستسلاما لربهم وإلا ففائدة الخبر ولازمها مما لا تحقق له .

قيل : ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا .

وقرئ ( آجالنا ) بالجمع و ( الذي ) بالتذكير والإفراد قالأبو علي : هو جنس أو وقع الذي موقع التي .

قال استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى حينئذ فقيل قال : النار مثواكم أي منزلكم ومحل إقامتكم أو ذات ثوائكم على أن المثوى اسم مكان أو مصدر خالدين فيها حال من ضمير الجمع والعامل فيها ( مثوى ) إن كان مصدرا وقدروا عاملا أي يبوؤون خالدين إن كان مثوى اسم مكان لأنه حينئذ لا يصلح للعمل وقال أبو البقاء : إن العامل في الحال على هذا التقدير معنى الإضافة وردوه بأن النسبة الإضافية لا تعمل ولا يصح أن تنصب الحال إلا ما شاء الله نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي وأن ما بمعنى من ولا يخفى أن استعمال ما للعقلاء قليل فيبعد ذلك كما يبعد شمول ما تقدم للمستثنى وقيل : إن ما مصدرية وقتية على ما هو الظاهر والمراد إلا الوقت الذين ينقلون فيه إلى الزمهرير فقد روي أنهم يدخلون واديا من الزمهرير ما يميز بين أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم ورد بأن فيه صرف النار من معناها العلمي وهو دار العذاب إلى اللغوي وأجيب عنه بأنه لا بأس به إذا دعت إليه ضرورة وقيل عليه : إن المعترض لا يسلم الضرورة غير هذا التأويل مع أن قوله سبحانه : مثواكم يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر وقيل : إن لهم وقتا يخرجون فيه من دار العذاب وذلك أنه روي أنهم يفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم وإليه الإشارة بقوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون .

وأنت تعلم أن ظواهر الآيات صادحة بعدم تخفيف العذاب عن الكفار بعد دخولهم النار وفي إخراجهم هذا تخفيف أي تخفيف وإن كان بعده ما يشيب منه النواصي ولعل الخبر في ذلك غير صحيح والمشهور أن المرائين يدنون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده فيها نودوا أناصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها الخبر بتمامه وقد قدمناه ويكون ذلك قبل إدخالهم النار كما لا يخفى على من راجع الحديث .

وقيل : المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول كأنه قيل النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم ورده أبو حيان بأنه [ ص: 27 ] في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج والمخرج منه فإذا قلت قام القوم إلا زيدا فإن معناه إلا زيدا ما قام ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا ما يقوم في المستقبل وكذلك سأضرب القوم إلا زيدا معناه إلا زيدا فإني لا أضربه في المستقبل ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا فإني ما ضربته وأجيب بأن هذا إذا لم يكن الاستثناء منقطعا أما إذا كان منقطعا فإنه يسوغ كقوله تعالى : يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أي لكن الموتة الأولى فإنهم ذاقوها فلعل القائل بأن المستثنى زمان إمهالهم يلتزم انقطاع الاستثناء كما في هذه الآية ولا محذور فيه مع ورود مثله في القرآن وفيه نظر ظاهر وذهب الزجاج إلى وجه لطيف إنما يظهر بالبسط فقال : المراد والله تعالى أعلم إلا ما شاء الله من زيادة العذاب ولم يبين وجه استقامة الاستثناء والمستثنى على هذا التأويل قال ابن المنير : ونحن نبينه فنقول : العذاب والعياذ بالله عز وجلعلى درجات متفاوتة فكأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة تعد خارجة عنه ليست من جنس العذاب والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما عبروا عن كثرة الفعل برب وقد وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة وذلك أمر يعتاد في لغة العرب وقد حام أبو الطيب حوله فقال .


ولجدت حتى كدت تبخل حائلا للمنتهى ومن السرور بكاء



فكان هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب ونهاية الشدة فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج عن اسم العذاب المطلق حتى تسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط وفي تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يؤيده . انتهى . ونقل عن بعضهم أن هذا الاستثناء معذوق بمشيئة الله تعالى رفع العذاب أي يخلدون إلى أن يشاء الله تعالى لو شاء وفائدته إظهار القدرة والإذعان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى شأنه قد شاءه وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم ولو عذبهم لا يخلدهم وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادتهعز وجل وفي الآية على هذا دفع في صدور المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة وأنه لا يجوز في العقل مقتضى ذلك ولعل هذا هو الحق الذي لا محيص عنه وفي معناه ما قيل : المراد المبالغة في الخلود بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله تعالى وهو مما لا يكون مع إيراده في صورة الخروج وإطماعهم في ذلك تهكما وتشديدا للأمر عليهم ومن أفاضل العصريين الأكابرمن ادعى ذلك الوجه له وأنه قد خلت عنه الدفاتر وهو مذكور في غير ما موضع فإن كان لا يدري فتلك مصيبة وإنكان يدري فالمصيبة أعظم وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في ذلك عند قوله سبحانه : ( إلا ما شاء ربك ) .

إن ربك حكيم في التعذيب والإثابة أو في كل أفعاله عليم (128) بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من الجزاء أو بكل شيء ويدخل ما ذكر دخولا أوليا.

التالي السابق


الخدمات العلمية