صفحة جزء
[ ص: 264 ]

سورة الفجر

بسم الله الرحمن الرحيم

والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد

قوله تعالى والفجر قسم أقسم الله تعالى به ، وهو انفجار الصبح من أفق المشرق ، وهما فجران : فالأول منهما مستطيل كذنب السرحان يبدو كعمود نور لا عرض له ، ثم يغيب لظلام يتخلله ، ويسمى هذا الفجر المبشر للصبح ، وبعضهم يسميه الكاذب لأنه كذب بالصبح . وهو من جملة الليل لا تأثير له في صلاة ولا صوم . وأما الثاني فهو مستطيل النور منتشر في الأفق ويسمى الفجر الصادق لأنه صدقك عن الصبح ، قال الشاعر :

[ ص: 265 ]


شعب الكلاب الضاريات فزاده نارا بذي الصبح المصدق يخفق



وبه يتعلق حكم الصلاة والصوم ، وقد ذكرنا ذلك من قبل . وفي قسم الله بالفجر أربعة أقاويل : أحدها : أنه عنى به النهار وعبر عنه بالفجر لأنه أوله ، قاله ابن عباس .

الثاني : أن الفجر الصبح الذي يبدأ به النهار من كل يوم ، قاله علي رضي الله عنه .

الثالث : أنه عنى به صلاة الصبح ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا .

الرابع : أنه أراد به فجر يوم النحر خاصة ، قاله مجاهد . وفي وليال عشر - وهي قسم ثان - أربعة أقاويل : أحدها : هي عشر ذي الحجة ، قاله ابن عباس ، وقد روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (والفجر وليال عشر ، قال : عشر الأضحى) .

الثاني : هي عشر من أول المحرم ، حكاه الطبري .

الثالث : هي العشر الأواخر من شهر رمضان ، وهذا مروي عن ابن عباس .

الرابع : هي عشر موسى عليه السلام التي أتمها الله سبحانه له ، قاله مجاهد . والشفع والوتر وهذا قسم ثالث ، وفيهما تسعة أقاويل : أحدها : أنها الصلاة ، فيها شفع وفيها وتر ، رواه عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 266 ]

الثاني : هي صلاة المغرب ، الشفع منها ركعتان ، والوتر الثالثة ، قاله الربيع بن أنس وأبو العالية .

الثالث : أن الشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة ، رواه ابن الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

الرابع : أن الشفع يوما منى الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة ، والوتر الثالث بعدهما ، قاله ابن الزبير .

الخامس : أن الشفع عشر ذي الحجة ، والوتر أيام منى الثلاثة ، قاله الضحاك .

السادس : أن الشفع الخلق من كل شيء ، والوتر هو آدم وحواء ، لأن آدم كان فردا فشفع بزوجته حواء فصار شفعا بعد وتر ، رواه ابن نجيح .

التاسع : أنه العدد لأن جميعه شفع ووتر ، قاله الحسن . ويحتمل حادي عشر : أن الشفع ما ينمى ، والوتر ما لا ينمى . والليل إذا يسر وهذا قسم رابع ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : هي ليلة القدر لسراية الرحمة فيها واختصاصها بزيادة الثواب فيها .

الثاني : هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله ، وسئل محمد بن كعب عن قوله تعالى والليل إذا يسر فقال أسر يا ساري ، ولا تبيتن إلا بجمع ، يعني بمزدلفة .

الثالث : أنه أراد عموم الليل كله . وفي قوله إذا يسر ثلاثة أوجه :

أحدها : إذا أظلم ، قاله ابن عباس .

[ ص: 267 ]

الثاني : إذا سار ، لأن الليل يسير بمسير الشمس والفلك فينتقل من أفق إلى أفق ، ومنه قولهم جاء الليل وذهب النهار .

الثالث : إذا سار فيه أهله ، لأن السرى سير الليل . هل في ذلك قسم لذي حجر وفي ذي الحجر لأهل التأويل خمسة أقاويل : أحدها : لذي عقل ، قاله ابن عباس .

الثاني : لذي حلم ، قاله الحسن .

الثالث : لذي دين ، قاله محمد بن كعب .

الرابع : لذي ستر ، قاله أبو مالك .

الخامس : لذي علم ، قاله أبو رجاء . والحجر : المنع ، ومنه اشتق اسم الحجر لامتناعه بصلابته ، ولذلك سميت الحجرة لامتناع ما فيها بها ، ومنه سمي حجر المولى عليه لما فيه من منعه عن التصرف ، فجاز أن يحمل معناه على كل واحد من هذه التأويلات لما يضمنه من المنع . وقال مقاتل (هل) ها هنا في موضع إن ، وتقدير الكلام : إن في ذلك قسما لذي حجر . ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم فيه سبعة أقاويل : أحدها : أن إرم هي الأرض ، قاله قتادة .

الثاني : دمشق ، قاله عكرمة .

الثالث : الإسكندرية ، قاله محمد بن كعب .

الرابع : أن إرم أمة من الأمم ، قاله مجاهد ، قال الشاعر


كما سخرت به إرم فأضحوا     مثل أحلام النيام .



الخامس : أنه اسم قبيلة من عاد ، قاله قتادة .

[ ص: 268 ]

السادس : أن إرم اسم جد عاد ، قاله محمد بن إسحاق ، وحكى عنه أنه أبوه ، وأنه عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح .

السابع : أن معنى إرم القديمة ، رواه ابن أبي نجيح .

الثامن : أنه الهلاك ، يقال : أرم بنو فلان ، أي هلكوا ، قاله الضحاك .

التاسع : أن الله تعالى رمهم رما فجعلهم رميما ، فلذلك سماهم ، قاله السدي . ذات العماد فيه أربعة أقاويل : أحدها : ذات الطول ، قال ابن عباس مأخوذ من قولهم رجل معمد ، إذا كان طويلا ، وزعم قتادة أنه كان طول الرجل منهم اثني عشر ذراعا .

الثاني : ذات العماد لأنهم كانوا أهل خيام وأعمدة ، ينتجعون الغيوث ، قاله مجاهد .

الثالث : ذات القوة والشدة ، مأخوذ من قوة الأعمدة ، قاله الضحاك ، وحكى ثور بن يزيد أنه قال : أنا شداد بن عاد ، وأنا الذي رفعت العماد ، وأنا الذي شددت بذراعي بطن السواد ، وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع لا تخرجه إلا أمة محمد .

الرابع : ذات العماد المحكم بالعماد ، قاله ابن زيد . التي لم يخلق مثلها في البلاد فيه وجهان :

أحدهما : لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد في البلاد ، قاله عكرمة .

الثاني : لم يخلق مثل قوم عاد في البلاد ، لطولهم وشدتهم ، قاله الحسن . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد فيه وجهان :

أحدهما : يعني قطعوا الصخر ونقبوه ونحتوه حتى جعلوه بيوتا ، كما قال تعالى :

[ ص: 269 ]

وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين قال الشاعر


ألا كل شيء ما خلا الله باطل     وكل نعيم لا محالة زائل



وقال آخر


وهم ضربوا في كل صماء صعدة     بأيد شديد من شداد السواعد .



الثاني : معناه طافوا لأخذ الصخر بالوادي ، كما قال الشاعر


ولا رأيت قلوصا قبلها حملت     ستين وسقا ولا جابت به بلدا



وأما (الواد) فقد زعم محمد بن إسحاق أنه وادي القرى ، وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك على وادي ثمود ، وهو على فرس أشقر ، فقال : أسرعوا السير فإنكم في واد ملعون . وفرعون ذي الأوتاد فيه أربعة أقاويل : أحدها : أن الأوتاد الجنود ، فلذلك سمي بذي الأوتاد لكثرة جنوده ، قاله ابن عباس .

الثاني : لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد يشدها في أيديهم ، قاله الحسن ، ومجاهد ، قال الكلبي : بمثل ذلك عذب فرعون زوجته آسية بنت مزاحم عندما آمنت حتى ماتت .

الثالث : أن الأوتاد البنيان فسمي بذي الأوتاد لكثرة بنائه ، قاله الضحاك .

الرابع : لأنه كانت له فطال وملاعب على أوتاد وحبال يلعب له تحتها ، قاله قتادة . ويحتمل خامسا : أنه ذو الأوتاد لكثرة نخلة وشجرة ، لأنها كالأوتاد في الأرض . فصب عليهم ربك سوط عذاب فيه أربعة أوجه :

أحدها : قسط عذاب كالعذاب بالسوط ، قاله ابن عيسى .

[ ص: 270 ]

الثاني : خلط عذاب ، لأنه أنواع ومنه قول الشاعر


أحارث إنا لو تساط دماؤنا     تزيلن حتى لا يمس دم دما



الثالث : أنه وجع من العذاب ، قاله السدي .

الرابع : أنه كل شيء عذب الله به فهو سوط عذاب ، قاله قتادة . وقال قتادة : كان سوط عذاب هو الغرق . إن ربك لبالمرصاد فيه وجهان :

أحدهما : بالطريق .

الثاني : بالانتظار ، كما قال طرفة


أعاذل إن الجهل من لذة الفتى     وإن المنايا للرجال بمرصد .



التالي السابق


الخدمات العلمية