صفحة جزء
قوله تعالى : وذا الكفل .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : وذا الكفل قال : رجل صالح غير نبي، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقيمهم له، ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك فسمي ذا الكفل .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي، حتى أنظر كيف يعمل فجمع الناس فقال : من يتقبل لي بثلاث أستخلفه؟ يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب؟ قال : فقام رجل تزدريه العين فقال : أنا . فقال : أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب؟ قال : نعم ، قال : فردهم في ذلك اليوم . وقال مثلها اليوم الآخر، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال : أنا ، فاستخلفه ، قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان . فأعياهم ذلك فقال : دعوني وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة - وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة - فدق الباب فقال : من [ ص: 352 ] هذا؟ قال : شيخ كبير مظلوم ، قال : فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه . فقال : إن بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني، وفعلوا بي وفعلوا ، وجعل يطول عليه حتى حضر وقت الرواح وذهبت القائلة، وقال : إذا رحت فائتني آخذ لك بحقك ، فانطلق وراح، وكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ ، فلم يره، فقام يبغيه فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس فينتظره فلا يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال : من هذا؟ قال : الشيخ الكبير المظلوم، ففتح له فقال : ألم أقل لك : إذا قعدت فائتني؟ قال : إنهم أخبث قوم ؛ إذا عرفوا أنك قاعد قالوا : نعطيك حقك . وإذا قمت جحدوني . قال : فانطلق فإذا رحت فائتني . ففاتته القائلة، فراح فجعل ينظر فلا يراه، وشق عليه النعاس، فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل : ما وراءك . قال : إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري ، قال : لا، والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه ، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت، فتسور منها فإذا هو في البيت، فإذا هو يدق الباب من داخل، [ ص: 353 ] فاستيقظ الرجل فقال : يا فلان، ألم آمرك؟ قال : أما من قبلي والله لم تؤت، فانظر من أين أتيت ، فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت، فعرفه، فقال له : أعدو الله؟ قال : نعم أعييتني في كل شيء، ففعلت ما ترى لأغضبك ، فسماه الله ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان قاض في بني إسرائيل، فحضره الموت، فقال : من يقوم مقامي على أن لا يغضب؟ فقال رجل : أنا ، فسمي ذا الكفل ، فكان ليله جميعا يصلي ثم يصبح صائما فيقضي بين الناس، وله ساعة يقيلها، فكان كذلك فأتاه الشيطان عند نومته، فقال له أصحابه : ما لك؟ قال : إنسان مسكين له على رجل حق قد غلبني عليه ، قالوا : كما أنت حتى يستيقظ .

قال : وهو فوق نائم ! فجعل يصيح عمدا حتى يغضبه ، فسمع فقال : ما لك؟ قال : إنسان مسكين له على رجل حق ، قال : اذهب فقل له يعطيك ، قال : قد أبى ، قال : اذهب أنت إليه ، فذهب ثم جاء من الغد فقال : ما لك؟ قال : ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأسا ، قال : اذهب أنت إليه ، فذهب ثم جاء من الغد حين قال، فقال له أصحابه : اخرج فعل الله بك؛ تجيء كل يوم حين ينام لا تدعه ينام، فجعل يصيح : من أجل أني إنسان مسكين؟ لو [ ص: 354 ] كنت غنيا ، فسمع أيضا فقال : ما لك؟ قال : ذهبت إليه فضربني . قال : امش حتى أجيء معك فهو ممسك بيده، فلما رآه ذهب معه نثر يده منه ففر فذهب .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في " ذم الغضب " ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن الحارث قال : قال نبي من الأنبياء لمن معه : أيكم يكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب، ويكون معي في درجتي، ويكون بعدي في مقامي؟ فقال شاب من القوم : أنا . ثم أعاد فقال الشاب : أنا . ثم أعاد، فقال الشاب : أنا . فلما مات قام بعده في مقامه فأتاه إبليس وقد قال؛ ليغضبه يستعديه، فقال لرجل : اذهب معه ، فجاء فأخبره أنه لم ير شيئا، ثم أتاه فأرسل معه آخر، فجاءه فأخبره أنه لم ير شيئا، ثم أتاه فقام معه فأخذ بيده، فانفلت منه، فسمي ذا الكفل لأنه كفل أن لا يغضب .

وأخرج أبو سعيد النقاش في كتاب القضاة ، عن ابن عباس قال : كان نبي لله جمع أمته فقال : أيكم يتكفل لي بالقضاء بين أمتي على أن لا يغضب؟ فقام فتى فقال : أنا يا رسول الله . ثم عاد، فقال الفتى : أنا . ثم قال لهم الثالثة : أيكم يتكفل لي بالقضاء بين الناس على أن لا يغضب؟ فقال الفتى : [ ص: 355 ] أنا . فاستخلفه فأتاه الشيطان بعد حين، وكان يقضي، حتى إذا انتصف النهار رجع فقال، ثم راح للناس- فأتاه الشيطان نصف النهار وهو نائم، فناداه حتى أيقظه، فاستعداه فقال : إن كتابك رده ولم يرفع به رأسا . مرتين أو ثلاثا، فأخذ الرجل بيده ثم مشى معه ساعة، فلما رأى الشيطان ذلك نزع يده من يده ثم فر؛ فسمي ذا الكفل .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن حجيرة الأكبر، أنه بلغه أنه كان ملك من ملوك بني إسرائيل عتا في ملكه، فلما حضرته الوفاة أتاه رؤوسهم فقالوا : استخلف علينا ملكا نفزع إليه ، فجمع إليه رؤوسهم فقال : من رجل تكفل لي بثلاث وأوليه ملكي؟ فلم يتكلم إلا فتى من القوم قال : أنا ، قال : اجلس ، ثم قالها ثانية فلم يتكلم أحد إلا الفتى . فقال : تكفل لي بثلاث وأوليك ملكي؟ قال : نعم ، قال : تقوم الليل فلا ترقد، وتصوم النهار فلا تفطر، وتحكم فلا تغضب ؟ قال : نعم ، قال : قد وليتك ملكي . فلما أن كان مكانه فقام الليل، وصام النهار، وحكم فلا يعجل ولا يغضب، يغدو فيجلس، حتى إذا كان المقيل رجع فكانت نومته، ثم يروح فيجلس لهم، فتمثل له الشيطان في صورة رجل، فأتاه وقد تحين مقيله فقال : أعدني على رجل ظلمني ، فأرسل معه رسولا فجعل يطوف به، وذو الكفل ينتظره حتى فاتته رقدته ثم انسل [ ص: 356 ] منه وسط الناس، فأتاه رسوله فأخبره، فراح للناس فجلس لهم فقال الشيطان : لعل يرقد الليلة، لم ينم اليوم، فلما أمسى صلى صلاته التي كان يصلي، ثم أتاه الغد وقد تحين مقيله فقال : أعدني على صاحبي ، فأرسل معه وانتظره، فطاف وتثبط حتى فاتت ذا الكفل رقدته، ثم أتاه الرسول فأخبره، فراح ولم ينم، فقال الشيطان : الليلة يرقد ، فأمسى يصلي صلاته كما كان يصلي ، ثم أتاه فقال : قد صنعت به ما صنعت لعله يغضب ، فقال : أعدني على صاحبي ، فقال : ألم أرسل معك رسولا؟ قال : بلى ، ولكن لم أجده . فقال له ذو الكفل : انطلق فأنا أذهب معك . فانطلق فطاف به، ثم قال له : أتدري من أنا؟ قال : لا ، قال : أنا الشيطان، كنت تكفلت لصاحبك بأمر، فأردت أن تدع بعضه وإن الله قد عصمك .

وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال : ما كان ذو الكفل بنبي، ولكن كان في بني إسرائيل رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتوفي، فتكفل له ذو الكفل من بعده ، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة فسمي ذا الكفل .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في " شعب الإيمان " من [ ص: 357 ] طريق سعد مولى طلحة ، عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت ، فقال : ما يبكيك؟ أكرهتك ؟ قالت : لا ولكنه عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة ، فقال : تفعلين أنت هذا وما فعلتيه؟ اذهبي فهي لك ، وقال : والله لا أعصي الله بعدها أبدا ، فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه : إن الله قد غفر للكفل .

وأخرجه ابن مردويه من طريق نافع ، عن ابن عمر ، وقال فيه : ذو الكفل .

التالي السابق


الخدمات العلمية