صفحة جزء
وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا

وما نتنزل : حكاية قول جبريل -صلوات الله عليه- حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم روى أنه احتبس أربعين يوما ، وقيل : خمسة عشر يوما ؛ وذلك حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه ، فشق ذلك عليه مشقة شديدة ، وقال المشركون : ودعه ربه وقلاه ، فلما نزل جبريل -عليه السلام- قال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك" . قال : إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ، وأنزل الله سبحانه- هذه الآية وسورة الضحى ، والتنزل على معنيين : معنى النزول على مهل ، ومعنى النزول على [ ص: 36 ] الإطلاق ؛ كقوله [من الطويل ] :


فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب



[ ص: 37 ] لأنه مطاوع نزل ، ونزل يكون بمعنى : أنزل ، وبمعنى : التدريج ، واللائق بهذا الموضع هو : النزول على مهل ، والمراد : أن نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت ليس إلا بأمر الله ، وعلى ما يراه صوابا وحكمة ، وله ما قدامنا ، وما خلفنا : من الجهات والأماكن ، وما بين ذلك : وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلا بأمر المليك : ومشيئته ، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون ، وما يحدث ويتجدد من الأحوال ، لا يجوز عليه الغفلة والنسيان ، فأنى لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا رأى ذلك مصلحة وحكمة ، وأطلق لنا الإذن فيه ، وقيل : ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة ، وما بين ذلك : ما بين النفختين وهو أربعون سنة ، وقيل : ما مضى من أعمارنا وما غبر منها ، والحال التي نحن فيها ، وقيل : ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا ، وقيل : الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا ، والسماء التي وراءنا ، وما بين السماء والأرض ، والمعنى : أنه المحيط بكل شيء ، لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة ، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادرا عما توجبه حكمته ويأمرنا به ويأذن لنا فيه ، وقيل : معنى : وما كان ربك نسيا : وما كان تاركا لك ، كقوله تعالى : ما ودعك ربك وما قلى [الضحى : 3 ] أي : ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به ، وأما احتباس الوحي فلم يكن عن ترك الله لك وتوديعه إياك ، ولكن لتوقفه على المصلحة ، وقيل : هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة ، أي : وما ننزل الجنة إلا بأن من الله علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها ، وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة . والمترقبة والحاضرة ، ألطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازي عليها ، ثم قال الله تعالى -تقريرا لقولهم - : وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين ، غافلا عما يجب أن يثابوا به ، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذي ملكوت السماء والأرض وما بينهما ؟ ثم قال لرسوله -صلى الله عليه وسلم - : فحين عرفته على هذه الصفة ، فأقبل على العمل واعبده : يثبك كما أثاب غيرك من المتقين ، وقرأ الأعرج -رضي الله عنه - : "وما يتنزل " : بالياء على الحكاية عن جبريل -عليه السلام- والضمير : للوحي ، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه - : إلا بقول ربك : يجب أن يكون الخلاف في النسي مثله في البغي .

التالي السابق


الخدمات العلمية