صفحة جزء
ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا

يحتمل أن يراد بالإنسان الجنس بأسره ، وأن يراد بعض الجنس وهم الكفرة .

فإن قلت : لم جازت إرادة الأناسي كلهم ، وكلهم غير قائلين ذلك ؟

قلت : لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم ، صح إسناده إلى جميعهم ، كما يقولون : بنو فلان قتلوا فلانا ؛ وإنما القاتل رجل منهم ؛ قال الفرزدق [من الطويل ] :


فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد



فقد أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله : "نبا بيدي ورقاء " ، وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي .

فإن قلت : بم انتصب : إذ انتبذت ، وانتصابه بأخرج ممتنع لأجل اللام ، لا تقول : اليوم لزيد قائم ؟

قلت : بفعل مضمر يدل عليه المذكور .

فإن قلت : لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى : الحال ، فكيف جامعت حرف الاستقبال ؟

[ ص: 40 ] قلت : لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد ، كما أخلصت الهمزة في : يا الله : للتعويض ، واضمحل عنها معنى التعريف ، و "ما" في "إذا ما " : للتوكيد أيضا- فكأنهم قالوا : أحقا أنا سنخرج أحياء حين يتمكن فينا الموت والهلاك ؟ على وجه الاستنكار والاستبعاد ، والمراد : الخروج من الأرض ، أو من حال الفناء ، أو هو من قولهم : خرج فلان عالما ، وخرج شجاعا : إذا كان نادرا في ذلك ، يريد : سأخرج حيا نادرا على سبيل التهزؤ ، وقرأ الحسن وأبو حيوة : "لسوف أخرج " ، وعن طلحة بن مصرف -رضي الله عنه - : "لسأخرج " ؛ كقراءة ابن مسعود -رضي الله عنه - : "ولسيعطيك " ، وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ، ومنه جاء إنكارهم ، فهو كقولك : للمسيء إلى المحسن : أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه : الواو عطفت أولا يذكر على " ويقول " ، ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف ، يعني : أيقول ذاك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر الأخرى ؛ فإن تلك أعجب [ ص: 41 ] وأغرب وأدل على قدرة الخالق ؛ حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود ، ثم أوقع التأليف مشحونا بضروب الحكم التي تحار الفطن فيها ، من غير حذو على مثال واقتداء بمؤلف ، ولكن اختراعا وإبداعا من عند قادر جلت قدرته ودقت حكمته ، وأما الثانية : فقد تقدمت نظيرتها وعادت لها كالمثال المحتذى عليه ، وليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية وتركيبها ، وردها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك والتفريق ، وقوله تعالى : ولم يك شيئا : دليل على هذا المعنى ؛ وكذلك قوله تعالى : وهو أهون عليه [الروم : 27 ] ، على أن رب العزة سواء عليه النشأتان ، لا يتفاوت في قدرته الصعب والسهل ، ولا يحتاج إلى احتذاء على مثال : ولا استعانة بحكيم ، ولا نظر في مقياس ، ولكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعا في بحر معاندته ، وكشفا عن صفحة جهله ، القراء كلهم على : "لا يذكرون" بالتشديد إلا نافعا وابن عامر وعاصما -رضي الله عنهم- فقد خففوا ، وفي حرف أبي : يتذكر ، من قبل : من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه .

التالي السابق


الخدمات العلمية