صفحة جزء
يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين

وقرئ : "يشهد " : بالياء ، والحق : بالنصب صفة للدين وهو الجزاء ، وبالرفع : صفة لله ، ولو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به من العصاة لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة -رضوان الله عليها- ولا أنزل من الآيات القوارع ، المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف ، واستعظام ما ركب من ذلك ، [ ص: 281 ] واستفظاع ما أقدم عليه ، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة ، كل واحد منها كاف في بابه ، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها ؛ حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا ، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة ، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا ، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله ؛ حتى يعلموا عند ذلك : أن الله هو الحق المبين فأوجز في ذلك وأشبع ، وفصل وأجمل ، وأكد وكرر ، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة ، وما ذاك إلا الأمر ، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما - : أنه كان بالبصرة يوم عرفة ، وكان يسأل عن تفسير القرآن ، حتى سئل عن هذه الآيات فقال : من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة ، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك ، ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد : وشهد شاهد من أهلها [يوسف : 26 ] ، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها : إني عبد الله ، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات ، فانظر ، كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتنبيه على إنافة محل سيد ولد آدم ، وخيرة الأولين والآخرين ، وحجة الله على العالمين ، ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه -صلى الله عليه وسلم- وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق ، فليتلق ذلك من آيات الإفك ، وليتأمل كيف غضب الله في حرمته ؟ وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه ؟

فإن قلت : إن كانت عائشة هي المرادة ، فكيف قيل المحصنات ؟

قلت : فيه وجهان : أحدهما : أن يراد بالمحصنات أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وأن يخصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لاحق به ، وإذا أردن عائشة كبراهن منزلة وقربة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت المرادة أولا .

والثاني : أنها أم المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات [ ص: 282 ] بالإحصان والغفلة والإيمان ؛ كما قال [من الرجز ] :


قدني من نصر الخبيبين قدي



أراد عبد الله بن الزبير وأشياعه ، وكان أعداؤه يكنونه بخبيب ابنه ، وكان مضعوفا ، وكنيته المشهورة : أبو بكر ، إلا أن هذا في الاسم وذاك في الصفة .

فإن قلت : ما معنى قوله : هو الحق المبين ؟

قلت : معناه : ذو الحق البين ، أي : العادل الظاهر العدل ، الذي لا ظلم في حكمه ، والمحق الذي لا يوصف بباطل ، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن ، فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية