صفحة جزء
قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين

فبما أغويتني : فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم ، وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغي ، ولم يثبت كما ثبتت الملائكة ، مع كونهم أفضل منه ، ومن آدم أنفسا ومناصب ، وعن الأصم : أمرتني بالسجود ، فحملني الأنف على معصيتك ، والمعنى : فبسبب وقوعي [ ص: 428 ] في الغي ، لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي ، كما فسدت بسببهم .

فإن قلت : بم تعلقت الباء ; فإن تعلقها بلأقعدن يصد عنه لام القسم ، لا تقول : والله بزيد لأمرن؟

قلت : تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدن ، أي : فبسبب إغوائك أقسم ، ويجوز أن تكون الباء للقسم ، أي : فأقسم بإغوائك لأقعدن ، وإنما أقسم بالإغواء ; لأنه كان تكليفا ، والتكليف من أحسن أفعال الله ; لكونه تعريضا لسعادة الأبد ، فكان جديرا بأن يقسم به ، ومن تكاذيب المجبرة ، ما حكوه عن طاوس : [ ص: 429 ] أنه كان في المسجد الحرام ، فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمي بالقدر ، فجلس إليه ، فقال له طاوس : تقوم أو تقام ، فقام الرجل ، فقيل له : أتقول هذا لرجل فقيه ؟ فقال : إبليس أفقه منه ، قال : "رب بما أغويتني" ، وهذا يقول : أنا أغوي نفسي ، وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه ، أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين ، وقيل : "ما" : للاستفهام ; كأنه قيل : بأي شيء أغويتني؟ ثم ابتدئ لأقعدن ، وإثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على "ما" الاستفهامية ، قليل شاذ ، وأصل "الغي" الفساد ، ومنه : غوى الفصيل ، إذا بشم ، والبشم : فساد في المعدة ، قعدن لهم صراطك المستقيم : لأعترضن لهم على طريق الإسلام ، كما يعترض العدو على الطريق ، ليقطعه على السابلة وانتصابه على الظرف ; كقوله : [من الكامل]


كما عسل الطريق الثعلب



وشبهه الزجاج بقولهم : ضرب زيد الظهر والبطن ، أي : على الظهر والبطن ، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه : قعد له بطريق الإسلام ، فقال له : تدع دين آبائك ، فعصاه فأسلم ، ثم قعد له بطريق الهجرة ، فقال له : تدع ديارك وتتغرب ، فعصاه فهاجر ، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك ، [ ص: 430 ] فعصاه فقاتل" ثم لآتينهم : من الجهات الأربع ، التي يأتي منها العدو في الغالب ، وهذا مثل لوسوسته إليهم ، وتسويله ما أمكنه وقدر عليه ; كقوله : واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك [الإسراء : 64] .

فإن قلت : كيف قيل : من بين أيديهم ومن خلفهم بحرف الابتداء وعن أيمانهم وعن شمائلهم بحرف المجاوزة ؟

قلت : المفعول فيه عدي إليه الفعل ، نحو تعديته إلى المفعول به ، فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك ، اختلفت في هذا ، وكانت لغة تؤخذ ، ولا تقاس ، وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط ، فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه ، وعلى يمينه ، وعن شماله ، وعلى شماله ، قلنا : معنى : "على يمينه" أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه ، ومعنى : "عن يمينه" : أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين ، منحرفا عنه ، غير ملاصق له ، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ، كما ذكرنا في : "تعال" ، ونحوه من المفعول به قولهم : "رميت عن القوس" ، وعلى القوس ، ومن القوس ; لأن السهم يبعد عنها ، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ، ويبتدئ الرمي منها ; كذلك قالوا : جلس بين يديه ، وخلفه بمعنى فيه ; لأنهما ظرفان للفعل ، ومن بين يديه ومن خلفه ; لأن الفعل يقع في بعض الجهتين ، كما تقول : جئته من الليل ، تريد بعض الليل .

وعن شقيق : ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد : من بين يدي ، ومن خلفي ، وعن يميني ، وعن شمالي ، أما من بين يدي فيقول : لا تخف ; فإن الله غفور رحيم ، فأقرأ : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا [طه : 82] ، وأما من خلفي : فيخوفني الضيعة على مخلفي ، فأقرأ : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [هود : 6 ] ، وأما من قبل يميني : فيأتيني من قبل الثناء ، فأقرأ : والعاقبة للمتقين [الأعراف : 12] وأما من قبل شمالي ، فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ : وحيل بينهم وبين ما يشتهون [سبأ : 54] ولا تجد أكثرهم شاكرين : قاله تظنينا ; بدليل قوله : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه [سبأ : 20] ، وقيل : [ ص: 431 ] سمعه من الملائكة بإخبار الله - تعالى - لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية