صفحة جزء
وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين

مهما : هي ما المضمنة معنى الجزاء ، ضمت إليها " ما " المزيدة المؤكدة للجزاء [ ص: 495 ] في قولك : متى ما تخرج أخرج أينما تكونوا يدرككم الموت [النساء : 78] فإما نذهبن بك : إلا أن الألف قلبت هاء استثقالا لتكرير المتجانسين ، وهو المذهب السديد البصري ، ومن الناس من زعم أن "مه" : هي الصوت الذي يصوت به الكاف ، و "ما" للجزاء ، كأنه قيل : كف ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين .

فإن قلت : ما محل مهما؟

قلت : الرفع بمعنى : أيما شيء تأتنا به ، أو النصب ، بمعنى : أيما شيء تحضرنا تأتنا به ، ومن آية : تبيين لمهما ، والضميران في "به" و "بها" : راجعان إلى مهما ، إلا أن أحدهما ذكر على اللفظ ، والثاني أنث على المعنى ; لأنه في معنى الآية ; ونحوه قول زهير [من الطويل] :


ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم



وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية ، فيضعها غير موضعها ، ويحسب مهما بمعنى متى ما ، ويقول مهما جئتني أعطيتك ، وهذا من وضعه ، وليس من كلام واضع العربية في شيء ، ثم يذهب فيفسر : مهما تأتنا به من آية : بمعنى الوقت ، فيلحد في آيات الله ، وهو لا يشعر ، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو [ ص: 496 ] بين يدي الناظر في كتاب سيبويه .

فإن قلت : كيف سموها آية ، ثم قالوا لتسحرنا بها؟

قلت : ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية ; وإنما سموها اعتبارا لتسمية موسى ، وقصدوا بذلك الاستهزاء ، والتلهي ، "الطوفان" : ما طاف بهم ، وغلبهم من مطر أو سيل ، قيل : طغى الماء فوق حروثهم ، وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يرون شمسا ولا قمرا ، ولا يقدر أحدهم أن يخرج من داره ، وقيل : أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون ، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة ، فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ، فمن جلس غرق ، ولم تدخل بيوت بني إسرائيل قطرة ، وفاض الماء على وجه أرضهم ، وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف ، ودام عليهم سبعة أيام ، وعن أبي قلابة : "الطوفان" : الجدري ، وهو أول عذاب وقع فيهم ، فبقي في الأرض ، وقيل : هو "الموتان" وقيل : الطاعون ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك ، فدعا فرفع عنهم ، فما آمنوا ، فنبت لهم تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله ، فأقاموا شهرا ، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم ، ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب ، وسقوف البيوت ، والثياب ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ، ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة ، فكشف عنهم بعد سبعة أيام : خرج موسى - عليه السلام - إلى الفضاء ، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب ، فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها ، فقالوا : ما نحن بتاركي ديننا فأقاموا شهرا ، فسلط الله عليهم القمل ، وهو الحنان في قول أبي عبيدة كبار القردان ، وقيل : الدبا ، وهو أولاد الجراد ، وقيل : نبات أجنحتها . وقيل : البراغيث ، وعن سعيد بن جبير : السوس ، فأكل ما أبقاه الجراد ، ولحس الأرض ، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه ، وكان يأكل أحدهم طعاما فيمتلئ قملا ، وكان يخرج أحدهم عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا يسيرا ، وعن سعيد بن جبير ، أنه كان إلى جنبهم كثيب أعفر ، فضربه موسى بعصاه ، فصار قملا ، فأخذت في أبشارهم ، وأشعارهم ، وأشفار عيونهم وحواجبهم ، ولزم جلودهم كأنه الجدري ، فصاحوا ، وصرخوا ، وفزعوا إلى موسى ، فرفع عنهم ، فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر ، وعزة فرعون لا نصدقك أبدا ، فأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع ، فدخلت بيوتهم ، وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم ، ولا يكشف أحد شيئا من ثوب ، ولا طعام ، ولا شراب إلا وجد فيه الضفادع ، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلم ، وثبت الضفدع إلى فيه ، وكانت [ ص: 497 ] تمتلئ منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد ، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي ، وفي التنانير وهي تفور ، فشكوا إلى موسى ، وقالوا : ارحمنا هذه المرة ، فما بقي إلا أن نتوب البتة النصوح ولا نعود ، فأخذ عليهم العهود ، ودعا فكشف الله عنهم ، ثم نقضوا العهد ، فأرسل الله عليهم الدم ، فصارت مياههم دما ، فشكوا إلى فرعون ، فقال : إنه سحركم فكان يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد ، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء ، وما يلي القبطي دما ، ويستقيان من ماء واحد ، فيخرج للقبطي الدم ، وللإسرائيلي الماء ، حتى أن المرأة القبطية تقول لجارتها الإسرائيلية : اجعلي الماء في فيك ثم مجيه في في ، فيصير الماء في فيها دما ، وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك ، فكان يمص الأشجار الرطبة ، فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحا أجاجا ، وعن سعيد بن المسيب : سال عليهم النيل دما ، وقيل : سلط الله عليهم الرعاف ، وروي : أن موسى - عليه السلام - مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات ، وروي : أنه لما أراهم اليد ، والعصا ، ونقص النفوس ، والثمرات ، قال : يا رب ، إن عبدك هذا قد علا في الأرض ، فخذه بعقوبة تجعلها له ولقومه نقمة ، ولقومي عظة ، ولمن بعدي آية ، فحينئذ بعث الله عليهم الطوفان ، ثم الجراد ، ثم ما بعده من النقم ; وقرأ الحسن : "والقمل" ، بفتح القاف وسكون الميم ، يريد "القمل" المعروف آيات مفصلات : نصب على الحال ، ومعنى مفصلات : مبينات ، ظاهرات ، لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره ، وأنها عبرة لهم ، ونقمة على كفرهم ، أو فصل بين بعضها وبعض بزمان تمتحن فيه أحوالهم ، وينظر أيستقيمون على ما وعدوا من أنفسهم ، أم ينكثون ; إلزاما للحجة عليهم؟

التالي السابق


الخدمات العلمية