صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن [ ص: 368 ] اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون

عن عمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري ، وعطاء ، وعكرمة ، وهو مذهب مالك والشافعي -رحمة الله عليهم-: أن الحر لا يقتل بالعبد، والذكر لا يقتل بالأنثى أخذا بهذه الآية ويقولون: هي مفسرة لما أبهم في قوله: النفس بالنفس [المائدة:45] ولأن تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها، وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم ما فيها، وعن سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، والثوري ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه: أنها منسوخة بقوله: النفس بالنفس [المائدة: 45] والقصاص ثابت بين العبد والحر، والذكر والأنثى، ويستدلون بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وبأن التفاضل غير معتبر في الأنفس، بدليل أن جماعة لو قتلوا واحدا [ ص: 369 ] قتلوا به.

وروي: "أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية، وكان لأحدهما [ ص: 370 ] طول على الآخر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد منا، والذكر بالأنثى، والاثنين بالواحد، فتحاكموا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين جاء الله بالإسلام، فنزلت، وأمرهم أن يتباؤوا".

فمن عفي له من أخيه شيء : معناه: فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو، على أنه كقولك: سير بزيد بعض السير، وطائفة من السير، ولا يصح أن يكون (شيء) في معنى المفعول به; لأن "عفا": لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة، وأخوه: هو ولي المقتول، وقيل له أخوه؛ لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به، كما تقول للرجل: قل لصاحبك كذا، لمن بينه وبينه أدنى ملابسة، أو ذكره بلفظ الأخوة؛ ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام.

فإن قلت: إن (عفي) يتعدى بعن لا باللام، فما وجه قوله: فمن عفي له ؟ قلت: يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب، فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال الله تعالى: عفا الله عنك [التوبة: 43] وقال: عفا الله عنها [المائدة: 101] فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معا، قيل: عفوت لفلان عما جنى، كما تقول: غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه، وعلى هذا ما في الآية، كأنه قيل: فمن عفي له عند جنايته، فاستغني عن ذكر الجناية.

فإن قلت: هلا فسرت (عفي) [ ص: 371 ] بـ(ترك) حتى يكون (شيء) في معنى المفعول به؟ قلت: لأن عفا الشيء بمعنى تركه ليس يثبت، ولكن أعفاه، ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وأعفوا اللحى".

فإن قلت: فقد ثبت قولهم: عفا أثره إذا محاه وأزاله، فهلا جعلت معناه: فمن محي له من أخيه شيء؟ قلت: عبارة قلقة في مكانها، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها، وترى كثيرا ممن يتعاطى هذا العلم يجترئ -إذا أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام الله- على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لا تعرفه، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها.

فإن قلت:لم قيل: شيء من العفو؟ قلت: للإشعار بأنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم، أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص، ولم تجب إلا الدية.

فاتباع بالمعروف : فليكن اتباع، أو فالأمر اتباع، وهذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعا، يعني: فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة، وليؤد إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان، بأن لا يمطله ولا [ ص: 372 ] يبخسه.

"ذلك": الحكم المذكور من العفو والدية تخفيف من ربكم ورحمة لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمة بين الثلاث: القصاص، والدية، والعفو؛ توسعة عليهم وتيسيرا.

فمن اعتدى بعد ذلك : التخفيف، فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل، أو القتل بعد أخذ الدية، فقد كان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية، ثم يظفر به فيقتله فله عذاب أليم : نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة.

وعن قتادة : العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية; لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا أعافي أحدا قتل بعد أخذه الدية".

ولكم في القصاص حياة : كلام فصيح لما [ ص: 373 ] فيه من الغرابة، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة; لأن المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة، أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل; لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل; لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه فارتدع سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود، فكان القصاص سبب حياة نفسين.

وقرأ أبو الجوزاء : (ولكم في القصص حياة) أي فيما قص عليكم من حكم القتل، القصاص - وقيل القصص -: القرآن، أي: (ولكم في القرآن حياة للقلوب) كقوله تعالى: روحا من أمرنا [الشورى: 52]، ويحيا من حي عن بينة [الأنفال: 42].

لعلكم تتقون : أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لعلكم تتقون : تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به، وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة.

التالي السابق


الخدمات العلمية