صفحة جزء
[ ص: 210 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الحج

هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات، قوله تعالى: هذان خصمان [الحج: 19] إلى تمام ثلاث آيات، قاله ابن عباس ومجاهد ، وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهن أربع آيات، إلى قوله تعالى: عذاب الحريق ، وقال الضحاك : هي مدنية، وقال قتادة : سورة الحج مدنية إلا أربع آيات، من قوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ، إلى قوله: عذاب يوم عقيم ، فهن مكيات، وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات، وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني، وهذا هو الأصح -والله أعلم- لأن الآيات تقتضي ذلك، وروي عن أنس بن مالك أنه قال: نزل أول السورة في السفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بها فاجتمع الناس إليه، فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ فبهتوا، فقال: يوم يقول الله: يا آدم أخرج بعث النار، فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فاغتم الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشروا، فمنكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل ... الحديث.

[ ص: 211 ] قوله عز وجل:

يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد

صدر الآية تحذير لجميع العالم، ثم أوجب الخبر وأكده بأمر زلزلة القيامة، وهي إحدى شرائطها، سماها شيئا؛ لأنها حاصلة متيقن وقوعها يستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي معدومة; إذ اليقين بها يشبهها بالموجودات، وأما على المآل، أي هي - إذا وقعت - شيء عظيم، فكأنه لم يطلق الاسم الآن، بل المعنى: إنها إذا كانت فهي حينئذ شيء عظيم.

و "الزلزلة": التحريك العظيم، وذلك مع نفخة الفزع، ومع نفخة الصعق حسبما تضمن حديث أبي هريرة من ثلاث نفخات. ومن لفظ الزلزلة قول الشاعر:


يعرف الجاهل المضلل أن الدهـ ـر فيه النكراء والزلزال

فيحتمل أن تكون "الزلزلة" في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة، كما قال: مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ، وكما قال عليه السلام : اللهم اهزمهم وزلزلهم ، [ ص: 212 ] والجمهور على أن زلزلة الساعة هي كالمعهودة في الدنيا إلا أنها في غاية الشدة.

واختلف المفسرون في "الزلزلة" المذكورة، هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم؟ فقال الجمهور: هي في الدنيا، والضمير في "ترونها" عائد على الزلزلة، وقوى قولهم أن الرضاع والحمل إنما هو في الدنيا، وقالت فرقة: "الزلزلة" في يوم القيامة، واحتجت بحديث أنس المذكور آنفا; إذ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ثم قال: إنه اليوم الذي يقول فيه لآدم : أخرج بعث النار .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا الحديث لا حجة فيه; لأنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية المتضمنة ابتداء أمر الساعة، ثم قصد في تذكيره وتخويفه إلى فصل من فصول يوم القيامة فنص ذكره، وهذا من الفصاحة، والضمير عند هذه الفرقة عائد على الساعة، أي: يوم يرون ابتداءها في الدنيا، فيصح لهم بهذا التأويل ألا يلزمهم وجود الرضاع والحمل في يوم القيامة، وإن أعادوه على الزلزلة فسد قولهم بما يلزمهم. على أن النقاش ذكر أن المراد بـ "كل ذات حمل" من مات من الإناث ولدها في جوفها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا ضعيف.

و"الذهول": الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره، قال ابن زيد : المعنى: تترك ولدها للكرب الذي نزل بها. وقرأ ابن أبي عبلة : "تذهل" بضم التاء وكسر الهاء ونصب "كل"، وألحق الهاء في "مرضعة" لأنه أراد فاعلات ذلك في ذلك اليوم فأجراه على الفعل، وأما إذا أخبرت عن المرأة بأن لها طفلا ترضعه [ ص: 213 ] فإنما تقول: "مرضع" مثل "حامل"، قال علي بن سليمان : هذه الهاء في "مرضعة" ترد على الكوفيين قولهم: إن الهاء لا تكون فيما لا تلبس له بالرجال، وحكى الطبري أن بعض نحويي الكوفة قال: أم الصبي مرضعة، والمستأجرة له مرضع.

و "الحمل" بفتح الحاء: ما كان في بطن أو على رأس شجرة. وقوله تعالى: وترى الناس سكارى تشبيه لهم؛ أي: من الهم، ثم نفى عنهم السكر الحقيقي الذي هو من الخمر، قاله الحسن وغيره.

وقرأ جمهور القراء: "سكارى" بضم السين وثبوت الألف، وكذلك في الثاني، وهذا هو الباب، فمرة جعله سيبويه جمعا، ومرة جعله اسم جمع، وقرأ أبو هريرة بفتح السين فيهما، وهذا أيضا قد يجيء في هذه الجموع، قال أبو الفتح : هو تكسير، وقال أبو حاتم : هي لغة تميم ، وقرأ حمزة والكسائي : "سكرى" في الموضعين، ورواه عمران بن حصين ، وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قراءة ابن مسعود ، وحذيفة ، وأصحاب عبد الله . قال سيبويه : وقوم يقولون "سكرى"، جعلوه مثل "مرضى"؛ لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان، ثم جعلوا "روبى" مثل "سكرى" وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب، قال أبو علي : ويصح أن يكون "سكرى" جمع "سكر" كزمني وزمن، وقد حكى سيبويه : رجل سكر بمعنى سكران، فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع، كما العلامة في "طائفة" لتأنيث الجمع. وقرأ سعيد بن جبير : "وترى الناس سكرى وما هم بسكارى" بالضم والألف. وحكى المهدوي عن الحسن أنه قرأ: "وترى الناس سكارى وما هم بسكرى"، وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو [ ص: 214 ] زرعة بن عمرو بن جرير في الموضعين: "سكرى" بضم السين، قال أبو الفتح : هو اسم مفرد كالبشرى، وبهذا أفتاني أبو علي ، وقد سألته عن هذا. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير ، وأبو هريرة، وأبو نهيك : "وترى" بضم التاء، "الناس" بالنصب، قال: وإنما هي بحسبه، ورويت هذه القراءة "وترى الناس" بضم التاء والسين؛ أي: ترى جماعة الناس.

التالي السابق


الخدمات العلمية