صفحة جزء
قوله عز وجل:

ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق

اختلفت القراءة في سكون اللام في قوله تعالى: ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا وفي تحريك جميع ذلك بالكسر، وفي تحريك "ليقضوا" وتسكين الاثنين، وقد تقدم في قوله تعالى: فليمدد بسبب إلى السماء توجيه جميع ذلك.

و "التفث" ما يفعله المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعث ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضى التفث إلا بعد ذلك. وقرأ عاصم وحده -في رواية أبي بكر -: "وليوفوا" بفتح الواو وشد الفاء، و "وفى" و "أوفى" لغتان مستعملتان في كتاب الله تعالى و "أوفى" أكثر. و "النذور" [ ص: 242 ] ما معهم من هدي وغيره، و "الطواف" المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج، قال الطبري : لا خلاف بين المتأولين في ذلك. قال مالك : هو واجب يرجع تاركه من وطنه إلا أن يطوف طواف وداع فإنه يجزيه منه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ويحتمل بحسب الترتيب أن تكون الإشارة إلى طواف الوداع إذ المستحسن أن يكون ولا بد، وقد أسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى: وليطوفوا بالبيت العتيق فقال: هو طواف الوداع. وقال مالك في الموطأ: واختلف المتألون في وجه صفة البيت بالعتيق ، فقال مجاهد ، والحسن : العتيق: القديم، يقال: سيف عتيق، وقد عتق الشيء.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا قول يعضده النظر; إذ هو أول بيت وضع للناس، إلا أن ابن الزبير قال: سمي عتيقا لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة بمنعه إياه منهم، وروي في هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نظر مع الحديث. وقالت فرقة: سمي عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط، وقالت فرقة: سمي عتيقا لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا يرده التصريف. وقيل: سمي عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان، قاله ابن [ ص: 243 ] جبير ، ويحتمل أن تكون "العتيق" صفة مدح تقتضي جودة الشيء، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حملت على فرس عتيق الحديث، ونحوه قولهم: كلام حر.

وقوله تعالى: "ذلك" يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير: فرضكم ذلك، أو الواجب ذلك، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير: امتثلوا ذلك ونحو هذا الإضمار، وأحسن الأشياء مضمرا أحسنها مظهرا، ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير :


هذا وليس كمن يعيا بخطته وسط الندي إذا ما ناطق نطقا

و "الحرمات" المقصودة هاهنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله سبحانه وتعالى: ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم ، ويدخل في ذلك تعظيم المواضع، قاله ابن زيد وغيره، ووعد على تعظيمها بعد ذلك تحريضا وتحريصا، ثم لفظ الآية -بعد ذلك- يتناول كل حرمة لله تعالى في جميع الشرع. وقوله تعالى: "فهو خير" ظاهره أنها ليست للتفضيل، وإنما هي عدة بخير، ويحتمل أن يجعل "خير" للتفضيل على تجوز في هذا الموضع.

وقوله تعالى: وأحلت لكم الأنعام إشارة إلى ما كانت العرب تفعله من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة، فأذهب الله تعالى جميع ذلك وأحل لهم جميع الأنعام إلا ما يتلى عليهم في كتاب الله تبارك وتعالى في غير موضع، ثم أمرهم باجتناب الرجس من الأوثان، والكلام يحتمل معنيين: أحدهما أن تكون "من" لبيان الجنس فيقع [ ص: 244 ] نهيه عن رجس الأوثان فقط، وتبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع، والمعنى الثاني أن تكون "من" لابتداء الغاية، فكأنه نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم; إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، ويظهر أن الإشارة إلى الذبائح التي كانت للأوثان، فيكون هذا مما يتلى عليهم، ومن قال: إن "من" للتبعيض قلب معنى الآية وأفسده، والمروي عن ابن عباس ، وابن جريج أن الآية نهي عن عبادة الأوثان.

و "الزور" عام في الكذب والكفر، وذلك أن كل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور، وقال ابن مسعود ، وأيمن بن خريم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عدلت شهادة الزور بالشرك ، وتلا هذه الآية، و "الزور" مشتق من الزور وهو الميل، ومنه في جانب فلان زور، ويظهر أن الإشارة في زور أقوالهم في تحريم وتحليل ما كانوا قد شرعوه في الأنعام.

و "حنفاء" معناه: مستقيمين أو مائلين إلى الحق بحسب أن لفظة "الحنف" من الأضداد، تقع على الاستقامة وتقع على الميل. و "حنفاء" نصب على الحال. وقال قوم: "حنفاء" معناه: حجاجا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا تخصيص لا حجة معه.

[ ص: 245 ] و "غير مشركين" يجوز أن يكون حالا أخرى، ويجوز أن تكون صفة لقوله: "حنفاء".

ثم ضرب الله تعالى مثلا للمشرك بالله سبحانه وتعالى أظهره في غاية السقوط ويحتمل الهول والانبتات من النجاة، بخلاف ما ضرب للمؤمن في قوله تعالى: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ، ومثله قول علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلئن أخر من السماء إلى الأرض أهون علي من أن أكذب عليه ، الحديث.

وقرأ نافع وحده: "فتخطفه الطير" بفتح الخاء وشد الطاء على حذف تاء التفعل، وقرأ الباقون: "فتخطفه الطير" بسكون الخاء وتخفيف الطاء، وقرأ الحسن -فيما روي عنه-: "فتخطفه" بكسر التاء والخاء وفتح الطاء مشددة، وقرأ الحسن أيضا وأبو رجاء بفتح التاء وكسر الخاء، والطاء وشدها، وقرأ الأعمش : "من السماء تخطفه" بغير فاء وعلى نحو قراءة الجماعة. وعطف المستقبل على الماضي لأنه بتقدير: فهو نخطفه الطير. وقرأ أبو جعفر : "الرياح".

و "السحيق": البعيد، ومنه قولهم: أسحقه الله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: فأقول سحقا سحقا ، ومنه "نخلة سحوق" للبعيدة في السماء.

[ ص: 246 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية