صفحة جزء
[ ص: 467 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الشعراء

هذه السورة مكية كلها، قاله جمهور الناس، وقال مقاتل : منها مدني الآية التي يذكر فيها الشعراء، وقوله تبارك وتعالى: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل .

قوله عز وجل:

طسم تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم

تقدم القول في الحروف في أوائل السور مستوعبا.

و "تلك" رفع بالابتداء، وهو وخبره ساد مسد الخبر عن "طسم" في بعض التأويلات. والإشارة بـ "تلك" هي بحسب الخلاف في "طسم"، وعلى بعض الأقوال تكون "تلك" إشارة إلى حاضر، و "ذلك" إلى موجود، كما أن "هذه" قد تكون الإشارة بها إلى غائب معهود كأنه حاضر.

و الكتاب المبين القرآن.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : "طسم" بكسر الطاء، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر بفتحها وبإدغام النون من "سين" في الميم، وقرأ حمزة [ ص: 468 ] وحده بإظهارها، وهي قراءة أبي جعفر ، ورويت عن نافع ، وروى يعقوب عن أبي جعفر ونافع قطع كل حرف منها على حدة، قال أبو حاتم : الاختيار فتح الطاء وإدغام آخر "سين" في أول "ميم" فتصير الميم متصلة.

وقوله تعالى: لعلك الآية، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم عما كان فيه من القلق والحرص على إيمانهم، فكان من شغل البال في حيز الخوف على نفسه. و "الباخع" القاتل نفسه والمهلك لها بالهم، قاله ابن عباس رضي الله عنهما والناس، ومن ذلك قول ذي الرمة :


ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر



وخوطب بـ "لعل" على ما في نفس البشر من توقع الهلاك في مثل تلك الحال. ومعنى الآية: ألا تهتم يا محمد بهم، وبلغ رسالتك، وما عليك من إيمانهم، فإن ذلك بيد الله تعالى لو شاء لآمنوا، وقوله: "ألا" مفعول من أجله.

وقوله تعالى: إن نشأ شرط، وما في الشرط من الإبهام هو - في هذه الآية - في حيزنا، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار، وإنما جعل الله تعالى آيات الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ليهتدي من سبق في علمه هداه، ويضل من سبق ضلاله، وليكون للنظرة تكسب به يتعلق الثواب والعقاب، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا أن لو كانت.

وقرأ: "ننزل" بفتح النون وشد الزاي أبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، والأعرج ، وعاصم ، والحسن . وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة بسكون النون وتخفيف الزاي. وروى هارون عن أبي عمرو "يشأ ينزل" بالياء فيهما. والخضوع للدلالة في الآية المنزلة كان يترتب بأحد وجهين: إما بخوف هلاك في مخالفة الأمر المقترن بها كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإما أن تكون من الوضوح بحيث يقع الإذعان لها وانقياد النفوس، وكل [ ص: 469 ] هذين لم يأت به نبي، ووجه ذلك ما ذكرناه، وهو توجيه منصوص للعلماء. وقرأ طلحة : "فتظل أعناقهم"، وهو المراد في قراءة الجمهور، وجعل الماضي موضع المستقبل إشارة إلى تقوية وقوع الفعل. وقوله تعالى: أعناقهم يحتمل تأويلين: أحدهما وهو قول مجاهد ، وابن زيد ، والأخفش أن يريد: جماعاتهم، يقال: جاء في عنق من الناس، أي جماعة ، ومنه قول الشاعر:


أن العراق وأهله     عنق إليك فهيت هيتا



وعليه حمل قول أبي محجن :


..................     وأكتم السر فيه ضربة العنق



ولهذا قيل: "عنق رقبة"، ولم يقل: "عنق عنق" فرارا من الاشتراك، قاله الزهراوي .

والتأويل الآخر أن يريد بـ "الأعناق" الجارحة المعلومة، وذلك أن خضوع العنق [ ص: 470 ] والرقبة هو علامة الذلة والانقياد، ومنه قول الشاعر:


وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم     خضع الرقاب نواكس الأبصار



فمعنى هذا التأويل نتكلم على قوله: خاضعين ، كيف جمعه جمع من يعقل؟ وذلك متخرج على نحوين من كلام العرب : أحدهما أن الإضافة إلى من يعقل أفادت حكمه لمن لا يعقل، كما تفيد الإضافة إلى المؤنث تأنيث علامة المذكر، ومنه قول الأعشى :


.................     كما شرقت صدر القناة من الدم



وهذا كثير.

والنحو الآخر أن تكون "الأعناق" لما وصفت بفعل لا يكون إلا مقصودا للبشر وهو [ ص: 471 ] الخضوع -; إذ هو فعل يتبع أمرا في النفس جمعت فيه جمع من يعقل، وهذا نظير قوله تعالى: أتينا طائعين ، وقوله: رأيتهم لي ساجدين . وقرأ ابن أبي عبلة : "لها خاضعة".

ثم عنف الكفار، ونبه على سوء فعلهم بقوله تعالى: وما يأتيهم الآية. وقوله تعالى: محدث يريد: محدث الإتيان، أي: مجيء القرآن للبشر كان شيئا بعد شيء، وقالت فرقة: يحتمل أن يريد بـ "الذكر" محمدا صلى الله عليه وسلم، كما قال في آية أخرى: قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا ، فيكون وصفه بالمحدث متمكنا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

والقول الأول أفصح.

وقوله تعالى: فقد كذبوا فسيأتيهم الآية وعيد بعذاب الدنيا، والآخرة، ويقوي أنه وعيد بعذاب الدنيا; أن ذلك قد نزل بهم، كبدر وغيرها.

ولما كان إعراضهم عن النظر في الصانع والإله أعظم كفرهم، وكانوا يجعلون الأصنام آلهة، ويعرضون عن الذكر في ذلك، نبه على قدرة الله تعالى، وأنه الخالق المنشئ الذي يستحق العبادة بقوله: أولم يروا إلى الأرض الآية. و "الزوج": النوع والصنف، و "الكريم": الحسن المتقن، قاله مجاهد وقتادة ، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور والأغذية والنباتات، ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن إنبات، ومنه قوله تعالى: والله أنبتكم من الأرض نباتا . قال الشعبي : الناس من نبات الأرض، فمن صار إلى الجنة فهو كريم، ومن صار بضد ذلك فهو لئيم. وقوله تعالى: وما كان أكثرهم مؤمنين . حكم على أكثرهم بالكفر. ثم توعد بقوله تعالى: وإن ربك لهو العزيز الرحيم ، يريد: عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة، وقال نحو هذا ابن جريج ، وفي لفظة "الرحيم" وعد.

التالي السابق


الخدمات العلمية