صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم

عزم العقدة: عقدها بالإشهاد والولي، وحينئذ تسمى "عقدة".

وقوله تعالى: حتى يبلغ الكتاب أجله . يريد تمام العدة، و"الكتاب" هنا هو الحد الذي جعل، والقدر الذي رسم من المدة، سماه كتابا إذ قدره وفرضه كتاب الله تعالى، كما قال: كتاب الله عليكم وكما قال: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ولا يحتاج عندي في الكلام إلى حذف مضاف، وقد قدر أبو إسحاق في ذلك حذف مضاف، أي "فرض الكتاب"، وهذا على أن جعل الكتاب القرآن.

[ ص: 585 ] واختلف أهل العلم إن خالف أحد هذا النهي، وعزم العقدة قبل بلوغ الأجل.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وأنا أفصل المسألة إن شاء الله تعالى.

أما إن عقد في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه، وذلك قبل الدخول فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء: إن ذلك لا يؤبد تحريما، وقاله مالك ، وابن القاسم في "المدونة" في آخر الباب الذي يليه ضرب أجل امرأة المفقود. وقال الجميع: يكون خاطبا من الخطاب.

وحكى ابن الجلاب -عن مالك - رواية أن التحريم يتأبد في العقد في العدة، وإن فسخ قبل الدخول.

وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها فقال قوم من أهل العلم: ذلك كالدخول في العدة يتأبد التحريم بينهما. وقال قوم من أهل العلم: لا يتأبد بذلك تحريم. وقال مالك مرة يتأبد التحريم، وقال مرة: وما التحريم بذلك بالبين، والقولان له في "المدونة" في طلاق السنة.

[ ص: 586 ] وأما إن دخل في العدة فقول عمر بن الخطاب ، ومالك ، وجماعة من أصحابه، والأوزاعي ، والليث ، وغيرهم من أهل العلم: إن التحريم يتأبد وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود ، وإبراهيم ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وجماعة من العلماء، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، إن التحريم لا يتأبد -وإن وطئ في العدة- بل يفسخ بينهما، ثم تعتد منه، ثم يكون خاطبا من الخطاب.

قال أبو حنيفة ، والشافعي : تعتد من الأول، فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر. وحكى ابن الجلاب رواية في المذهب أن التحريم لا يتأبد مع الدخول في العدة، ذكرها في العالم بالتحريم المجترئ لأنه زان، وأما الجاهل فلا أعرف فيها خلافا في المذهب.

حدثني أبو علي الحسين بن محمد الغساني مناولة، قال نا أبو عمر بن عبد البر ، [ ص: 587 ] نا عبد الوارث بن سفيان ، نا قاسم بن أصبغ ، عن محمد بن إسماعيل ، عن نعيم بن حماد ، عن ابن المبارك ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن [ ص: 588 ] مسروق ، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما ففرق بينهما، وعاقبهما، وقال: لا تنكحها أبدا، وجعل صداقها في بيت المال، وفشا ذلك في الناس فبلغ عليا فقال: يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبيت المال، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة. قيل: فما تقول أنت فيها؟ قال: لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما، ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء، ثم يخطبها إن شاء، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فخطب الناس فقال: يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة .

وهذا قول الشافعي ، والليث في العدة من اثنين.

قال مالك، وأصحاب الرأي، والأوزاعي، والثوري: عدة واحدة تكفيهما جميعا سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالأشهر.

وروى المدنيون، عن مالك ، مثل قول علي بن أبي طالب ، والشافعي في إكمال العدتين. واختلف قول مالك رحمه الله في الذي يدخل في العدة عالما بالتحريم مجترئا، فمرة قال: العالم والجاهل فيه سواء، لا حد عليه، والصداق له لازم، والولد لاحق، ويعاقبان ولا يتناكحان أبدا، ومرة قال. العالم بالتحريم كالزاني يحد ولا يلحق به الولد، وينكحها بعد الاستبراء، والقول الأول أشهر عن مالك رحمه الله.

وقوله تعالى: "واعلموا" إلى آخر الآية. تحذير من الوقوع فيما نهى عنه، وتوقيف على غفره وحلمه في هذه الأحكام التي بين ووسع فيها من إباحة التعريض ونحوه.

التالي السابق


الخدمات العلمية